تزداد حدة أزمة التعليم في مدينة القامشلي يوماً بعد يوم، وذلك بسبب الارتفاع الكبير في تكاليف الدروس الخصوصية والاعتماد شبه الكامل للأهالي على المعاهد التعليمية، في ظل غياب المدارس الحكومية الفعالة.
يدفع هذا الوضع العديد من الأسر إلى التعبير عن استيائها من تراجع جودة التعليم مقابل الأعباء المالية المتزايدة، حيث يعتبرون أن التعليم لم يعد رسالة نبيلة كما كان في السابق، بل تحول إلى تجارة مربحة على حساب مستقبل الطلاب.
يقول أبو خالد لـ"سوريا 24" إن العملية التعليمية «باتت أكثر صعوبة من أي وقت مضى»، موضحاً أنه أنفق ما يقارب 600 دولار على تعليم ابنه في الصف التاسع، «عدا عن تكاليف القرطاسيات وأجور النقل من القرية إلى القامشلي». ويضيف أن هذا المبلغ يغطي فقط دورات في اللغة العربية والرياضيات والفيزياء والكيمياء، لافتاً إلى أن «الأسعار أصبحت مرتفعة إلى درجة غير منطقية، وترتفع كل عام أكثر من العام الذي سبقه».
ويرى أبو خالد أن «المعاهد اليوم لم تعد تهدف إلى التعليم، بل إلى الكسب المادي»، موضحاً أن أغلب المعلمين «يهتمون بعدد الطلاب الذين يسجلون لديهم أكثر من اهتمامهم بجودة الشرح أو مستوى الفهم». ويؤكد أن الكادر التدريسي «لم يعد كما كان في السابق»، مشيراً إلى أن «الاهتمام بالطالب تراجع بشكل واضح، والدروس أصبحت قصيرة، ولا توجد متابعة جادة أو فردية». ويقول إن ابنه يدرس ضمن مجموعة تضم نحو 15 طالباً في الصف الواحد، ويشعر أن الطالب «مجرد رقم ضمن مجموعة كبيرة، بلا تقييم حقيقي أو دعم». ويتابع: «الطالب اليوم إذا لم يأخذ دروساً خصوصية أو يسجل في معهد، فلن تكون له فرصة حقيقية للنجاح أو الحصول على علامات جيدة، خصوصاً مع غياب المدارس الحكومية»، مضيفاً أن هذا الواقع «أجبر الأهالي على دفع مبالغ تفوق طاقتهم»، وأن «تكاليف التعليم أصبحت تستهلك نصف دخل الأسرة أو أكثر، خاصة لدى العائلات التي لديها أكثر من ولد». ويختم حديثه بالقول: «التعليم صار تجارة، ولم يعد هناك ما يبرر هذه المصاريف الباهظة».
أما مسعود، والد لطالب في البكالوريا العلمي، فيروي لـ"سوريا 24" تجربته قائلاً: «من بداية العام كنت حريصاً على تأمين أفضل معهد لابني في القامشلي حتى لا يقصر في دراسته، فهذه السنة مصيرية ولا مجال فيها للخطأ». ويضيف أنه دفع 1000 دولار لقاء التسجيل في معهد معروف في المدينة، «يقال إنه الأفضل»، لكن النتيجة جاءت مخيبة للآمال. يوضح مسعود أن ابنه بدأ منذ أسابيع يشتكي من ضعف مستوى التدريس في مادة اللغة العربية تحديداً، قائلاً: «يخبرني أن الدروس قصيرة، والشرح غير واضح، وغالباً ما ينتهي الدرس قبل أن يفهموا نصف الأفكار». ويضيف أن المعلم «يبدو وكأنه يؤدي واجبه شكلياً فقط»، وأنه «لا يمنح الطلاب الاهتمام الكافي، ولا يتابع معهم كما ينبغي». ويشير مسعود إلى أنه تحدث مع طلاب آخرين في المعهد نفسه، وتبين له أنهم جميعاً يعانون من المشكلة ذاتها، ما جعله يشعر أن «المعاهد باتت تتاجر بسمعتها أكثر مما تهتم بجودة التعليم». ويؤكد أن «الأسعار لم تعد مرتفعة فحسب، بل أصبحت مبالغاً فيها بشكل غير طبيعي»، لافتاً إلى أن الأهالي «مضطرون للدفع لأن مستقبل أبنائهم على المحك»، مضيفاً: «المعاهد لم تعد تركز على التعليم، بل على الربح أولاً، والطالب أصبح عبئاً مادياً ثقيلاً على أسرته دون أن يحصل على المقابل الذي يستحقه». ويختم مسعود بالقول إن «الأهالي اليوم يعيشون بين خيارين أحلاهما مر: إما تسجيل أبنائهم في معاهد باهظة التكاليف خوفاً على مستقبلهم، أو الامتناع عن ذلك وتعريضهم لخطر الرسوب أو ضعف التحصيل».
أما أبو هيثم، وهو موظف حكومي وأب لثلاثة أطفال، فيوضح لـ"سوريا 24" أن وضعه المادي لا يسمح له بتحمل أعباء التعليم الحالية، لكنه «مضطر لذلك». يقول: «أخصص جزءاً كبيراً من راتبي الشهري لتغطية تكاليف الدروس الخصوصية، ومع ذلك لا أشعر أن أولادي يحصلون على التعليم الذي يستحقونه». ويضيف أن «المدارس الحكومية غائبة، لذلك لا خيار أمامنا سوى المعاهد»، لكنه يصف الأمر بأنه «نزيف مالي مستمر». ويتابع: «الطلاب في المعاهد لا يتلقون اهتماماً فردياً، وكل شيء يتم بسرعة وكأن الهدف إنهاء المنهج لا فهمه». ويشير إلى أن «الأسعار تختلف من مادة لأخرى، لكن المعدل العام مرتفع جداً، خاصة في المواد العلمية التي تتطلب أكثر من دورة واحدة». ويؤكد أن كثيراً من الأسر في القامشلي «تعيش اليوم حالة قلق دائم»، لأن التعليم «تحول إلى عبء مالي لا يمكن الاستغناء عنه، وفي الوقت نفسه لا يحقق نتائج مرضية». ويختم أبو هيثم قائلاً: «صرنا نعيش في معادلة صعبة؛ لا نستطيع ترك أولادنا بلا تعليم، ولا نقدر على تحمل هذه التكاليف الخيالية، والتعليم اليوم لم يعد رسالة كما كان، بل تجارة مربحة تستهلك جهدنا ومعيشتنا».
ويجمع الأهالي الذين تحدثوا لـ"سوريا 24" على أن أزمة التعليم في القامشلي لم تعد تقتصر على غلاء الأسعار، بل تشمل أيضاً تراجع مستوى الكوادر التعليمية، غياب المتابعة الفردية، وانعدام الثقة بين الأهالي والمعاهد. وبينما يواصل الأهالي دفع مبالغ تفوق قدرتهم أملاً في تأمين مستقبل أفضل لأبنائهم، يظل التعليم في نظرهم «مرآة لأزمة أعمق» تعكس واقعاً اقتصادياً صعباً، وغياباً واضحاً للدور الرسمي في دعم العملية التعليمية.