الثلاثاء, 26 أغسطس 2025 06:39 PM

مستقبل سوريا: نحو عقل متحرر يوازن بين الحرية والمسؤولية

مستقبل سوريا: نحو عقل متحرر يوازن بين الحرية والمسؤولية

د.سلمان ريا: على مر القرون، انقسم العقل في هذه المنطقة إلى ثلاثة مسارات رئيسية: عقل يكتفي بالبيان، باحثًا في اللغة والنصوص عن إجابات لكل سؤال؛ وعقل يتوق إلى البرهان، متطلعًا إلى المنطق والعلم والحجة؛ وعقل يغرق في العرفان، يذوب في الغيب ويستمد من الأسرار خلاصًا مؤجلًا. هذه المسارات لم تتوحد أبدًا، بل تحولت إلى جزر متباعدة، يقصي بعضها بعضًا، تاركة الإنسان بين لغة متحجرة، وعلم يتيم، وروح هائمة.

لقد دفعت سوريا، مثل غيرها، ثمن هذا التشتت. في لحظة الأزمة الكبرى، عندما انهارت الجدران وظهرت الحاجة إلى عقل يوازن بين الحرية والمسؤولية، لم نجد سوى بقايا عقل بياني يحتمي بالتقاليد، أو عرفاني يهرب إلى الغيب، أو برهاني معزول لا صوت له في السياسة والمجتمع. فجاء الاستبداد ليملأ الفراغ، محولًا الولاء إلى بديل عن الفكر، والقمع إلى أداة لضبط الفوضى التي خلقها هو نفسه.

لكن التجربة المريرة تحمل درسًا: لا يمكن تحقيق الخلاص بالعودة إلى أي من هذه الأطر بشكل منفرد. فالعقل البياني، إذا تُرك وحده، يتحول إلى قيد لغوي-نصي يعطل الحياة. والعقل العرفاني، إذا انفرد، يصبح غيبية تبرر الاستسلام. والعقل البرهاني، إذا عُزل، يصبح نخبوياً بلا جذور. المطلوب هو تجاوز هذه الثنائية العاجزة بين النقل والغياب، وبين العقل المعزول والعقل المأسور، نحو عقل إنساني-تحرري يدمج البيان كوسيلة تواصل، والبرهان كأداة معرفة، والوجدان كعمق إنساني.

هذا التحول ليس ترفًا فلسفيًا، بل هو شرط للبقاء. الحرية لن تتحقق ما لم نتحرر أولاً من أسر البنية العقلية التي تعيد إنتاج الاستبداد جيلًا بعد جيل. والعدالة لن تُبنى ما لم يتحول الإنسان – لا الطائفة، لا الحزب، لا الزعيم – إلى مركز كل مشروع سياسي واجتماعي.

المستقبل يبدأ بوعي جديد: وعي يرى في الإنسان القيمة العليا، وفي الحرية شرط كل حضارة، وفي الكرامة جوهر كل هوية. سوريا يمكن أن تكون بداية هذا التحول، إذا امتلكت شجاعة مواجهة ذاتها قبل مواجهة غيرها.

الطريق واضح: لن ينهض الوطن بعقل أسير، بل بعقل محرر يفتح الباب لزمن جديد، زمن لا يكون فيه البيان قيدًا، ولا العرفان هروبًا، ولا البرهان عزلة، بل جميعها جسورًا إلى إنسان ينهض من رماده كطائر يعرف أنه لا وطن له إلا الحرية. (أخبار سوريا الوطن-1)

مشاركة المقال: