بقلم المهندس باسل قس نصر الله
عيدُ ميلادي الثامنِ والستينَ اقتربَ، وقد تقرؤونَ المقالةَ وهو قد حلَّ أو تجاوزَهُ. بعد أن انتقلَ أبي مع أمي – في بدايةِ ستينياتِ القرنِ الماضي – إلى مدينةِ اللاذقيَّةِ، أصرَّ أن يُبقينا – أنا وأخي سامر – في حلبَ على أساسِ أنَّهُ سيعودُ إليها بعد ستةِ أشهرٍ، ولا يريدُ أن “يشنططَنا” بتغييرِ مدارسِنا، ولكن هذه “الستةَ أشهرٍ” أضحت سبعاً وثلاثينَ سنةً، فبقينا في حلبَ عند أهلِ أمي وخالتيَّ، وتابعنا دراستَنا المدرسيَّةَ والجامعيَّةَ، وتزوّجنا في حلبَ.
وعندما كنتُ أكتبُ رسالةً لوالدي إميلَ، كان يُعيدُها إليَّ مشفوعةً بخطوطٍ حمراءَ تحت بعضِ الكلماتِ، دلالةً على خطأٍ لغويٍّ، وكأنَّ الرسالةَ ورقةُ امتحانٍ، وكأنَّ والدي هو المعلِّمُ. فكان يُضيفُ الحواشي على رسالتي، شارحاً ومنبِّهاً لكي أتعلمَ عدمَ الوقوعِ في خطأٍ لغويٍّ مرةً أخرى. تتعدَّدُ الرسائلُ وتتكاثرُ لديَّ بعد إعادتها مُصحَّحةً، وتوقعتُ في مرّاتٍ عديدةٍ أن يُرسلَ لي والدي رسالةً يُؤكِّدُ فيها رسوبي “في مدرستهِ الأبويَّةِ” بمادَّةِ اللغةِ العربيَّةِ.
في إحدى المرّاتِ، جلس أمامي المحامي “جورج عريس” وكان بعمرِ التسعينَ – (رحمهُ اللهُ الآن) – وكان صديقاً لوالدي، وجعل ينظرُ إليَّ ثم قال: هل تعرفُ أن اسمكَ كان “باسيل”؟ ثم أقام والدُكَ دعوى قضائيَّةً لتغييره إلى “باسل”؟ لم أكنْ أعرفُ تماماً ذلك، ولم يسبقْ لي أنِ استفسرتُ من أبي – رحمه اللهُ – عن سببِ تسميتِي “باسل” وليس “باسيل” كما هو اسمُ جدّي.
كان المحامي “جورج” يستمتعُ برؤيةِ آثارِ الدهشةِ الباديةِ على وجهي، ثم قال لي: بعد ولادتكَ في دمشقَ، عاد والدُكَ إلى حلبَ ليُسجّلكَ لدى المختار، وكتب له اسمكَ “باسل”، إلا أن المختارَ اعتقد أن والدكَ أخطأ في اسمكَ بدلًا من اسمِ “باسيل” الذي هو اسمُ جدّكَ، فقام بتسجيلكَ باسم “باسيل”. ولمّا علم والدُكَ بالخطأِ الذي حصل، ونظراً لعدمِ إمكانيَّةِ تغييرِ اسمكَ بعد التسجيلِ، أصرَّ على تغييرهِ عن طريقِ القضاءِ. فجاءني مهموماً – وأنا صديقُهُ – ليقولَ لي ما حدث معه، ويطلبَ منّي أن أقومَ بالإجراءاتِ القضائيَّةِ لتغييرِ الاسمِ. فاعتقدتُ أنّهُ يمزح، وقلتُ له: “أين المشكلة؟ اسمُ باسيل وباسل نفس الشيء!” فاحتدَّ والدُكَ كثيراً، وقال لي: “كيف نفسُ الشيءِ؟ … إنّ اسمَ باسل هو اسمٌ عربيٌّ!”
ثم أردفَ المحامي جورج قائلاً، ومستغرباً من تصرّفِه: لقد رفعتُ الدعوى، وتمّ تغييرُ اسمكَ من “باسيل” إلى “باسل”، ولكن إلى الآن لم أفهمْ سببَ إصرارِ والدِكَ على تسميتِكَ “باسل” بدلاً من اسمِ والدهِ – جدِّكَ – “باسيل”، وللعلم فاسم جدي في النفوس ليس باسيل فقط، بل “خواجه باسيل” وكم تباهيتُ بذلك.
رحمَ اللهُ الأستاذَ “عريس”، لأنّهُ لم يفهمْ أن صديقَهُ “إميل” هو عربيُّ الهوى والقلبِ واللسانِ. هكذا تربّيتُ، وهكذا ترعرعتُ. والدٌ نفَتْهُ فرنسا إلى “البوكمال”، حيث كانت “البوكمال” منفىً للسوريينَ المعارضينَ لها. أحببتُ لغةَ الضادِ، مع اعترافي بأنني لا أملكُ ناصيتَها تماماً، وإلى الآن أُتخيّلُ والدي عندما أُخطئُ في اللغةِ أو الإعرابِ، يضعُ يدَيْهِ على أُذنَيْهِ، مردّداً بغضبٍ أبويٍّ: “أعوذُ بالله!” ثم يقولُ لي: “يا بنيَّ، لا يجوزُ أن تُلحِنَ”، وأنا أفتحُ فمي فاغراً لأنني لم أفرّقِ اللحنَ في اللغةِ من اللحنِ الموسيقيِّ، ويضيعُ صوابُ والدي.
وأحسستُ بانسجامٍ مع مجتمعي، وكم من صديقٍ لي يحملُ اسمي وهو من إخوتِنا المسلمينَ، لكن لم يخطرْ لي أن الأسماءَ العربيَّةَ ليست مقصورةً على فئةٍ دون أخرى، فكم من صديقٍ مسيحيٍّ في بلادِ الشامِ اسمُهُ “حسن”، وكم من مسلمٍ اسمُهُ أو لقبُهُ “الياس”. كان المسيحيُّونَ العربُ عندما يُهاجرونَ إلى دولِ العالمِ يُضطرّون غالباً إلى تغييرِ أسمائِهِم إلى أسماءَ مقبولةٍ في مجتمعاتِهِم الجديدةِ. كم لي من قريبٍ قام – في بلادِ الهجرةِ – بتغييرِ اسمِهِ من “سهيل” إلى “أنطوان”، ومن “صديق” إلى “جوزيف”.
في بلادِنا – التي أُصرُّ على أنّها بلادُنا جميعاً – أحببنا أسماءَنا العربيّةَ، ولكنَّنا للأسفِ قمنا بتغييرِها في بلادِ اللهِ الواسعةِ. وسأبقى أفتخرُ باسمي العربيِّ “باسل”، وأُحاولُ حتى الآن أن أتعلّمَ اللغةَ بشكلٍ أفضلَ بعدما فرّقتُ بين اللحنَيْنِ: اللغويِّ والموسيقيِّ. اللهمَّ اشهدْ أنّي قد بلّغتُ.
(موقع أخبار سوريا الوطن ٢-الكاتب)