في عالم الذكاء الاصطناعي المتسارع، نشهد تحولًا جذريًا في كيفية تفاعلنا مع النماذج اللغوية. بعد فترة من الاعتماد على "هندسة الأوامر"، يبرز الآن مفهوم "هندسة السياق" كقوة دافعة. هذا التحول ليس مجرد تطور تقني، بل يمثل تغييرًا أساسيًا في فهمنا واستخدامنا للذكاء الاصطناعي.
هندسة الأوامر: دقة صياغة السؤال
في البداية، ركز الذكاء الاصطناعي اللغوي على هندسة الأوامر، حيث كان الهدف هو صياغة أسئلة دقيقة للحصول على إجابات صحيحة. على سبيل المثال، للحصول على معلومات حول "الطقس في دمشق"، كان يجب تحديد السؤال بدقة: "ما هو توقع الطقس في دمشق غدًا مع درجات الحرارة والرطوبة؟".
هندسة السياق: بناء بيئة معرفية متكاملة
مع تطور النماذج اللغوية، ظهرت الحاجة إلى نموذج أكثر وعيًا وفهمًا للسياق المحيط بالسؤال. هنا تبرز هندسة السياق، التي تمثل تحولًا من مجرد "آلة تجيب" إلى "نظام يفهم ويحلل". تعتمد هذه الهندسة على تزويد النموذج بمعرفة واسعة تشمل السياسات والضوابط التنظيمية، والمستندات والمصادر الخارجية ذات الصلة، وتاريخ المحادثة الحالي وسجلات التفاعلات السابقة، وأمثلة واقعية مساندة.
تمثل هندسة السياق الثورة القادمة بعد هندسة الأوامر، حيث تنتقل من صياغة سؤال دقيق إلى بناء بيئة معرفية متكاملة تدعم الذكاء الاصطناعي بفهم أعمق، وتزيد دقته واستمراريته في مجالات مثل الإعلام الرقمي والإنتاج الإعلامي الحديث.
مثال من الإعلام الرقمي:
عندما يستخدم محرر في قناة رقمية نموذجًا لغويًا لإنشاء تقرير حول أزمة اجتماعية، لا يكفي سؤاله: "ما هي أسباب الأزمة؟"، بل تُحضّر له بيئة سياقية تشمل تقارير سابقة، مواقف الأطراف، تحليلات الخبراء، والسياسات التحريرية للقناة. بذلك، يستطيع النموذج أن ينتج محتوى تحليليًا عميقًا ومتسقًا مع توجهات القناة وواقعية الحدث.
دمج السياقات: الثابت، الديناميكي، والتفاعلي
تستند هندسة السياق إلى دمج ثلاثة مستويات من السياق:
- السياق الثابت: الدور المحدد للنموذج (مثل مساعد صحفي، أو محرر رقمي) والقواعد والسياسات الثابتة التي تحكم تفاعله.
- السياق الديناميكي: مجموعة المعلومات والبيانات المتغيرة مثل تحديثات الأخبار، منشورات وسائل التواصل الاجتماعي المتصلة بالأحداث الجارية، أو قواعد بيانات المصادر المتجددة.
- السياق التفاعلي: الذاكرة الحية للحوار والمحادثة، التي تسمح للنموذج بتتبع تطور الموضوع عبر التدقيق والمراجعة المستمرة.
مثال تطبيقي:
في مشروع لإعداد نشرة إخبارية رقمية تفاعلية، يستخدم المحرر نموذجًا لغويًا يدعم السياق التفاعلي، حيث يحتفظ بتاريخ الحوار مع المحررين. إذا تم تعديل معلومة أو إضافة خبراً جديدًا، يستطيع النموذج تحديث النصوص ذات الصلة تلقائياً مع الحفاظ على اتساق السرد ومضمون الرسائل.
البيئة السياقية
يعتمد نموذج الذكاء الاصطناعي في هندسة السياق بشكل أساسي على البيئة السياقية المقدمة من المستخدم أو المؤسسة التي تستخدم النموذج، إذ تُغذى هذه البيئة بمعطيات محددة مثل السياسات، المستندات، بيانات تاريخية، وأمثلة واقعية تخص المجال المعني. لكن النموذج لا يكتفي بهذه البيئة فقط، بل يمكنه أحيانًا الاستفادة من مصادر خارجية يختارها النظام أو يرشحها لتعزيز دقة وعمق الإجابة، خصوصًا إذا تم دمجه مع أنظمة أو منصات ذكاء اصطناعي متقدمة تتصل بقاعدة معرفية أوسع، أو قواعد بيانات متجددة، أو مصادر حية ضمن بيئة العمل. مثلاً، أدوات الذكاء الاصطناعي السياقي مثل ClickUp Brain لا تعتمد فقط على السياق المقدم من المستخدم، بل تعمل بشكل مدمج مع مساحة العمل الحية وتستفيد من معلومات الفريق، الأنظمة، والتحديثات في الوقت الفعلي لتعطي مخرجات ذات صلة وواقعية. هذا يعني أن النموذج يكون متمكنًا من "التعلم" من بيئة العمل والبيانات الحية ويستطيع تقديم إجابات محدثة ومتوافقة مع آخر المستجدات. في الإعلام الرقمي، هذا يسمح للنماذج اللغوية بالارتباط بمصادر الأخبار، قواعد البيانات، وتحديثات المحتوى لتقديم تحليلات دقيقة تراعي السياق الأوسع، وليس فقط ما هو مدخل يدويًا في بداية الحوار. لذا، هندسة السياق هي مزيج بين البيئة المعرفة المقدمة من المستخدم، والمصادر المختارة والمضافة آلياً لتعزيز الاستجابة وجودتها، ما يحول الذكاء الاصطناعي إلى نظام يفهم ويُحدث نفسه ضمن إطار غني بالمعلومات.
التأثيرات والإمكانات المستقبلية
هذا التحول من هندسة الأوامر التقليدية إلى هندسة السياق يفتح آفاقًا واسعة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام الرقمي، حيث تصبح خبرات التحرير أكثر تكاملًا وواقعية. حيث تتيح قدرة النماذج على حفظ المعلومات والبناء عليها إنتاج محتوى أكثر دقة، وتحليلًا أعمق، يواكب سرعة تغيّر الأحداث ويعزز الثقة مع الجمهور.
نحن أمام حقبة جديدة تعيد تشكيل الإعلام الرقمي من خلال الذكاء الاصطناعي. لم تعد الأوامر الذكية وحدها تكفي، بل القدرة على بناء سياق ذكي وشامل هو الذي يضمن فعالية وتأثير الذكاء الاصطناعي، ويؤسس لشراكة حقيقية بين الإنسان والنظام الذكي في صناعة الإعلام.