تعتبر النقابات الحرة ركيزة أساسية في المجتمع المدني، فهي ليست مجرد أطر مهنية تدافع عن مصالح أعضائها، بل جزء لا يتجزأ من البنية التأسيسية لأي مشروع ديمقراطي يهدف إلى تقليل هيمنة السلطة المركزية وتوسيع المشاركة العامة. فكلما اتسعت دائرة العمل النقابي الحر، تقلصت مساحة الاستبداد، وعلى العكس، كلما خضعت النقابات لإرادة السلطة الحاكمة، تضاءلت فرص التحول الديمقراطي وترسخ الحكم الفردي.
تجربة نقابة "تضامن" في بولندا تقدم مثالاً واضحاً على ذلك. فبولندا، التي كانت تعيش تحت نظام شمولي موالٍ للاتحاد السوفييتي، يقمع المعارضة ويسيطر على المؤسسات ويوجه النشاط النقابي ضمن أطر رسمية، شهدت ظهور نقابة "تضامن" عام 1980 بقيادة "ليخ فاونسا"، الذي أصبح فيما بعد رئيسًا لبولندا. شكل هذا الحدث نقطة تحول مهمة، حيث تحولت "تضامن" إلى منصة وطنية واسعة ضمت ملايين الأعضاء من مختلف الفئات، وحولت الاحتجاجات المهنية إلى حركة مجتمعية تطالب بالإصلاح السياسي واحترام الحقوق والحريات. وعلى الرغم من الأحكام العرفية واعتقال قادة النقابة، استمرت "تضامن" في الضغط على النظام حتى أجبرته على الحوار وإجراء انتخابات عام 1989، التي كانت بداية النهاية للحكم الشيوعي في بولندا وشرق أوروبا.
في المقابل، شهدت سوريا في نفس الفترة الزمنية بوادر حركة نقابية مهنية جريئة، حيث عبرت نقابات المحامين والأطباء والمهندسين عن مواقف ناقدة لسياسات النظام ومطالبة بالإصلاح. إلا أن رد السلطة كان سريعاً وحاسماً، حيث تم اعتقال قادة النقابات وحل المجالس النقابية المنتخبة وتعيين مجالس موالية للنظام بدلاً منها، بالإضافة إلى إصدار قانون جديد للنقابات يهدف إلى توجيهها بما يخدم مشروع الحكم الفردي. كانت هذه الإجراءات بمثابة إخصاء كامل للمجتمع والنقابات، وتحويلها إلى أذرع سلطوية تستخدمها الدولة لضبط المجتمع.
اليوم، تحتاج النقابات السورية إلى عملية انعتاق جديدة تعيد إليها دورها كعامل من عوامل التغيير الديمقراطي. فلا يمكن لأي عملية تحول ديمقراطي أن تنجح دون وجود نقابات مستقلة تمثل مصالح أعضائها. يجب أن تكون النقابة حصنًا حاميًا لأعضائها، لا أداة تبطش بهم خدمة للسلطة الحاكمة. فاستقلال النقابات يعزز سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وتعدد مراكز القوة داخل المجتمع.
إن إعادة بناء الحركة النقابية الحرة في سوريا ضرورة وطنية لاستعادة التوازن داخل المجتمع والدفع نحو دولة المواطنة والحقوق المتساوية وسيادة القانون، وتقويض أسس الاستبداد. فالتجارب في بولندا وسوريا تظهر كيف يمكن للنقابات الحرة أن تكون قوة دافعة نحو الديمقراطية، أو كيف يمكن للسلطة الاستبدادية أن تقوم بـ "إخصاء" هذه القوة عندما ترى فيها تهديدًا لمشروعها السلطوي. سوريا اليوم بحاجة إلى نقابات مستقلة ومنتخبة، قادرة على الدفاع عن مشروع وطني للانتقال الديمقراطي.