الثلاثاء, 17 يونيو 2025 09:01 PM

الانتماء: كيف يصبح الشعور بالوطن هوية و مقاومة؟

د. سلمان ريا: الانتماء ليس مجرد شعار نرفعه في المناسبات، أو وثيقة نستخدمها عند الحاجة. إنه حالة وجودية، شعور عميق يستقر في الوجدان ويتأصل في القلب، قبل أن يعبر عنه اللسان أو يجسده القانون. هو صوت داخلي يهمس لك: "أنت لست وحيدًا"، بل جزء من كيان، من قصة، من مصير مشترك.

في عالم مليء بالتغيرات، حيث يسهل على البعض تغيير مواقفهم كالأقنعة، يظل الانتماء هو الأساس الذي تبنى عليه هوية الإنسان. إنه التزام لا يمكن انتزاعه، وولاء لا يشترى، وعلاقة حب معقدة لا تنفك مهما بعدت المسافات أو اشتدت الظروف.

عندما تنتمي بصدق، هذا لا يعني أن تغلق عقلك أو تصم أذنيك، بل أن تبقي عينيك مفتوحتين على أوسع نطاق، محملتين بالحب والمسؤولية في آن واحد. الانتماء لا يطلب منك الخضوع، بل النهوض. لا يطلب منك الصراخ، بل العمل بهدوء. لا ينتظر منك التصفيق، بل الثبات عندما يستسلم الجميع.

في بلاد عانت من الألم حتى التخمة، مثل بلادنا، يصبح الانتماء نوعًا من الصمود الداخلي، فعل مقاومة صامت، وإيمانًا راسخًا بأن ما تبقى من الوطن لا يزال يستحق ما تبقى فينا من حياة. أن تقول "أنا أنتمي"، لا يعني إنكار الجراح، بل الإصرار على مداواتها. أن تتمسك بالمكان، ليس لأنه مثالي، بل لأنك ترى في ترابه ما يستحق النضال.

الانتماء ليس هروبًا من الذات نحو الجماعة، بل لقاء معها؛ هو لحظة صافية ترى فيها نفسك في مرآة الآخرين، وتدرك أنك لست غريبًا في هذا الكون، بل لبنة في بناء أكبر، قصة ممتدة من الماضي إلى الحاضر، وإلى المستقبل الذي لم يكتب بعد.

من رحم الانتماء تولد الهوية... تلك الكلمة التي غالبًا ما تختزل في مظاهر خارجية، لكنها في الحقيقة كيان متفاعل، ينمو، يتغير، ويتشكل بالتجربة. الانتماء الواعي ينمي الهوية ويعمقها، يمنحها جذورًا وأجنحة: جذورًا تربطها بالأصل، وأجنحة تمكنها من التحليق خارج الحدود الضيقة.

أما عندما يكون الانتماء قسريًا، مفروضًا أو قائمًا على المصلحة، فإنه ينشئ هويات زائفة، هشة، تتكسر عند أول عاصفة. في هذا الزمن المتقلب، نحن بأمس الحاجة إلى انتماء جديد: انتماء لا يقوم على الطائفة أو المصلحة، بل على الصدق والرؤية المشتركة. انتماء لا يستخدم كأداة للعقاب، بل كبوصلة للعبور الآمن في العواصف. انتماء لا يفكر في المكاسب، بل في المصير؛ لا يخاف النقد، بل يتقبله كضرورة للنضج.

المنتمي الحقيقي لا يغادر، بل يصبر، لا يساوم، بل يواجه، لا يلعن المكان، بل يعيد بناءه لبنة لبنة، وأملًا بأمل. في النهاية، الانتماء ليس ما نقوله... بل ما نصبح عليه. هو ذلك الإيمان الهادئ، العميق، الذي يربط الإنسان بأرضه، بفكرته، بقضية عادلة لا تموت. هو عندما تصبح الروح وطنًا، لا تحدده الخرائط، بل تكتبه الأرواح.

مشاركة المقال: