ينتظر مئات الموظفين الحكوميين في إدلب، والذين كانوا تابعين لوزارة الإدارة المحلية، قراراً يسمح لهم بالعودة إلى وظائفهم التي فصلوا منها "تعسفياً" في عهد النظام السابق. وتشير التقديرات إلى أن عدد المفصولين من هذه الوزارة وحدها على مستوى المحافظات يبلغ 5,622 موظفاً وموظفة.
تجري لجنة من وزارة الإدارة المحلية والبيئة في الحكومة السورية الجديدة مقابلات مع الموظفين الذين فصلوا سابقاً. ومن بين هؤلاء طاهر الأمين، البالغ من العمر 53 عاماً، الذي توجه عدة مرات إلى مبنى الخدمات الفنية في محافظة إدلب أملاً في استعادة حقوقه والعودة إلى عمله. وقد أعادت وزارة التنمية الإدارية بالفعل نحو 15 ألف موظف، كانوا قد فصلوا تعسفياً بسبب مشاركتهم في الثورة السورية، إلى عملهم في وزارة التربية في نيسان/أبريل الماضي. بينما ينتظر آخرون من ملاك وزارات أخرى إعادتهم إلى وظائفهم.
يقول الأمين: "في كل مرة يقولون لي لا جديد بشأن عودة الموظفين، وفي آخر مرة أخبروني أن اسمي غير موجود [في قائمة المدعوّين للمقابلة]، لذا يتعين عليّ الانتظار حتى يظهر اسمي في قوائم وزارة التنمية". والأمين هو واحد من نحو 400 موظف بحكم المستقيل (مفصول تعسفياً) في إدلب، من ملاك وزارة الإدارة المحلية السورية، الذين ينتظرون قراراً بإعادتهم، بحسب قائمة حصلت عليها "سوريا على طول"، من مجموعة خاصة للتنسيق بين الموظفين المفصولين، وهؤلاء من أصل 5,622 موظفاً مفصولاً على مستوى المحافظة، بحسب إحصائيات صادرة عن الوزارة نفسها.
لم يتخيل الأمين أن ينتهي به الحال عند باب مديرية الخدمات الفنية، التابعة لوزارة الإدارة المحلية، ملتمساً إعادته إليها، وهو الذي قضى فيها أكثر من 14 عاماً، عندما تم توظيفه في مطلع عام 2001 كمصنّف بسيط، ومن ثم تنقل بين عدة مواقع: من ورشات كهرباء السيارات مرآب الخدمات الفنية إلى مراقب دوام في المديرية، ثم مسؤول شعبة تسجيل الآليات الحكومية، قبل أن يُنتدب إلى محافظة إدلب كمحاسب محروقات.
يقول الأمين: "في أصعب الظروف لم أفكر بترك الوظيفة، لأنني أرى أن الاستقرار يبدأ من الراتب مهما كان بسيطاً"، وقد "كنت سعيداً في عملي وملتزماً به".
بعد خروج مدينة إدلب عن سيطرة نظام الأسد، في آذار/مارس 2015، ذهب الأمين ثلاث مرات إلى مدينة حماة لاستلام راتبه الشهري، وفي المرة الأخيرة عندما دخل مكتب مدير الخدمات الفنية هناك، "طُلب مني الانتظار ريثما يصل موظف الأمن للتحقيق معي، لذا قررت مغادرة المكتب فوراً، وركبت في أول سيارة إلى كراج حماة ومنها عدت إلى إدلب"، وفقاً له، مشيراً إلى أنها المرة الأخيرة التي يدخل فيها مناطق سيطرة النظام. بعد ذلك، اعتبرته حكومة نظام الأسد بحكم المستقيل.
إذ بموجب المادة 135 من قانون عام 2004، المعروف بـ"نظام العاملين الأساسي في الدولة"، يعتبر "العامل بحكم المستقيل إذ ترك وظيفته من دون إجازة قانونية ولم يستأنف عمله خلال 15 يوماً من تاريخ ترك الوظيفة"، ناهيك عن أن ترك العمل في مؤسسات الدول يعتبر "جرماً" يعاقب عليه القانون، بحسب المادة 364 من قانون العقوبات السوري.
خلال السنوات الماضية، عمل الأمين في أعمال متفرقة بنظام المياومة، وجميعها لا تتناسب مع خبرته ولا تضمن له أدنى حدّ من الأمان، قائلاً: "أنا موظف، لا أملك مصلحة ولا أملك مهارة أخرى"، لذا "كل ما أرجوه أن أعود إلى عملي حتى أكون نافعاً فيه".
في وقت مبكر، التحق إبراهيم أحمد الأسعد بالثورة السورية، مخفياً وجهه بلثام، لأنه كان موظفاً في قسم المالية بفرع مخابز إدلب، وهو جزء من المؤسسة السورية للمخابز، التابعة بدورها لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك. ومع ذلك، استمر الأسعد، الذي كان مسؤولاً عن رواتب 14 مخبزاً في محافظة إدلب، في الحصول على راتبه حتى "تحرير المدينة عام 2015". وعندما تحول تسليم الرواتب إلى محافظة حماة لم يجرؤ على الذهاب.
بعد عام من خسارة دخله الأساسي والوحيد، ضاق الحال بالأسعد، ما دفعه إلى المخاطرة بنفسه من أجل الراتب، لذا ذهب إلى حماة واستلم "مستحقات ستة أو سبعة أشهر دفعة واحدة"، لكن لم يعد يكررها لما تحمل الرحلة من "مخاطر"، لا سيما بعد أن وصله خبر بأنه "مطلوب"، ومن ثم علم أنه "بحكم المستقيل"، حاله حال آلاف الموظفين المفصولين تعسفياً.
توجه الأسعد في ذاك العام إلى فرع المخابز "الذي نقل مقره إلى المطاحن" وعرض خبرته الطويلة في المحاسبة وتسلمي الرواتب، لكن موظفاً في المديرية التابعة للمعارضة آنذاك قال له "نحن عندنا جماعتنا، اذهب لعند النظام!"، بحسب الأسعد، الذي ساءه ما سمع لأنه دفع ثمن انحيازه لـ"الثورة" بخسارة وظيفته.
بعد ذلك، استأجر الأسعد دكاناً صغيراً بجانب بيته محاولاً تأمين مصاريف عائلته أو كما قال "البقاء على قيد الكرامة"، واستمر في عمله حتى الآن. وفي كانون الأول/ديسمبر 2024، أي بعد سقوط النظام، تلقى الأسعد رابطاً من موظفي فرع المخابز التابع لمحافظة حماة، من أجل تعبئة نموذج "إعادة الارتباط"، فسارع إلى "ملء البيانات"، وما يزال ينتظر حتى الآن.
تجربة قريبة عاشها ماهر حيدان، الذي شهد كل تفاصيل الحياة في إدلب من "نزوح وقصف وخوف ومع ذلك بقيت فيها، ولم أنتقل إلى حماة"، رغم أنه كان قادراً على مواصلة عمله ولكن في مديرية الخدمات الفنية بحماة وليس في إدلب، التي عُيّن فيها عام 2013، كما قال لـ"سوريا على طول".
على عكس حيدان، ذهب بعض زملائه إلى حماة وواصلوا عملهم في المديرية هناك، ومن ثم أخبروه بأنه مطلوب للخدمة الاحتياطية، وإن لم يلتحق سيتم فصله، فكان جوابه: "يفصلوني، والله هو المعين".
لم تكن المرة الأولى التي يشعر حيدان بالظلم من نظام الأسد، إذ تم تعيينه عام 2013 بموجب الشهادة الإعدادية (المتوسطة)، وفي نفس العام حصل على شهادة الثانوية العامة، وهذا يعطيه الحق بـ"تعديل الوضع الوظيفي"، لكن "الوزير رفض تعديل وضعي رغم استحقاقي".
عاد الأمل لحيدان بعد سقوط النظام بأن يستعيد حقه بالوظيفة التي خسرها "تعسفاً"، وبدأ ينسق مع موظفي الخدمات في إدلب -المفصولين مثله- ضمن مجموعة واتساب أنشأها لهذا الغرض، وتضم أكثر من 700 عضو (موظف)، كما قال.
على المجموعة ذاتها، وصله رابط من المديرية مخصص لمن يريد العودة إلى وظيفته، فسارع إلى تعبئة النموذج، وهو نفس النموذج الذي قام الأسعد بتعبئته، وبعد شهر ونصف "اتصلوا بي واستدعوني لمقابلة، كانت أسئلة بسيطة، وقالوا لي سوف نخبرك لاحقاً، وحتى الآن لم يتصل بي أحد"، قال حيدان.
لم يكتف حيدان بالانتظار، وإنما تابع ملف المفصولين متنقلاً من مكتب إلى آخر: المحافظ، العلاقات العامة، مكتب تسيير الأعمال، وحتى وزير الإدارة المحلية، وحصل على "وعود كثيرة وأمل، ولكن لا شيء على أرض الواقع حتى الآن".
يقول حيدان: "كبرنا بالعمر، وعندنا أولاد ومسؤوليات، ولم نلتحق بالنظام البائد، لذا كان من المفروض أن نكون أول الناس عودة إلى الوظائف"، مطالباً "أصحاب القرار، سواء المحافظ أو الوزير، أن ينظروا بوضعنا لأننا تعبنا".
بعد رحلة لجوء استمرت خمس سنوات، عادت إيمان نعمان، 41 عاماً، وهي أم لثلاثة أطفال وزوجة معلم لغة عربية، إلى مدينة إدلب، وهي موظفة "مفصولة تعسفياً" في مديرية الخدمات الفنية بإدلب.
درست نعمان في معهد المراقبين الفنيين في حلب، وهو معهد حكومي ملزم بتوظيف طلبته، وبالتالي فور تخرجها توظفت بموجب قرار وزاري "عبر عقد سنوي يتجدد تلقائياً، ثم تم تثبيتي بعد عشر سنوات من العمل"، كما قالت لـ"سوريا على طول".
عندما عادت إلى إدلب "بعد تحرير سوريا"، وسماعها التصريحات الرسمية للإدارة السورية الجديدة بالنظر في ملفات "المفصولين تعسفياً"، قدمت نعمان طلباً لدى المديرية، مرفقة فيه الوثائق المطلوبة والعنوان ورقم الهاتف". ومن ثم "أعطوني موعداً لإجراء مقابلة" في أواخر أيار/مايو الماضي، طلبوا خلالها "معلوماتي الشخصية، وشهادتي، والقسم الذي كنت أعمل فيه، وما هي وظيفتي"، وكذلك "سألوني إن كنت أرغب في مواصلة عملي فأجبتهم بتأكيد رغبتي في ذلك"، قالت إيمان.
انتهت المقابلة من دون تحديد موعد لاستئناف العمل أو صدور نتيجة المقابلة، ومن حينها تنتظر نعمان أي معلومات عن "آلية العودة إلى العمل ومتى سيتم إبلاغي بالمستجدات".
بعد عدة محاولات من "سوريا على طول" للحصول على تصريح من الجهات المعنية بملف الموظفين المفصولين في إدلب، قال مسؤول في وزارة الإدارة المحلية أن "الإدارة الجديدة تولي أهمية خاصة لملف الموظّفين المنقطعين عن العمل خلال سنوات الحرب، وتتعامل معه باعتباره ملفاً حساساً له بعد إنساني ووطني"، مؤكداً وجود "لجان مختصة مكلفة بتقدير كل حالة على حده".
وأضاف المسؤول أن الوزارة "فتحت قنوات تواصل رسمية وغير رسمية، منها الإعلان عن رابط تسجيل بالشراكة مع وزارة التنمية الإدارية، بالإضافة إلى تشكيل لجان فرعية لإجراء مقابلات مع أصحاب العلاقة".
وطلب المسؤول من الموظفين المنقطعين -بغض النظر مفصولاً تعسفياً أو منقطعاً بسبب انخراطه في الثور- تقديم طلب خطي يبين فيه سبب الانقطاع، في حال لم يسجل على الرابط الذي خصصته الوزارة لتقديم المعلومات، ومن ثم يُعرض الطلب على لجنة مختصة لتقييم إمكانية التسوية أو إعادة التعيين.
ولفت المسؤول إلى أن "الأولوية لدى الوزارة إعادة المفصولين وإنصافهم وظيفياً"، وهناك "مقترحات قيد الدراسة لتعويضهم ماديا" عن السنوات الماضية، مشيراً إلى أن "عودة الكفاءات والخبرات السابقة تمثل ركيزة أساسية لسد النقص الكبير في الكوادر المؤهلة، وبالتالي فإن إعادة هذه الفئة ليست استحقاقاً أخلاقياً فحسب، وإنما ضرورة إدارية في مرحلة إعادة البناء"، على حد قوله.
تنتظر إيمان نعمان بفارغ الصبر استعادة حقها بالعودة إلى وظيفتها الحكومية، علماً أن زوجها، وهو معلم من ملاك وزارة التربية قد عاد إلى وظيفته من ضمن آلاف الموظفين الذين أعلنت وزارة التنمية الإدارية عودتهم في نيسان/أبريل. وكذلك، يترقب طاهر الأمين اتصالاً يبشّره بقبول طلبه في العودة إلى وظيفته، قائلاً: "أعلم أن الحكومة الحالية ورثت واقعاً صعباً وممزقاً، لكننا نتمنى ألا يضيع حقنا في العمل ولاحقاً في التقاعد".