الوطن ليس مجرد خريطة تلطخ بالدماء أو تعلق على الجدران، بل هو الوعي الذي يخفق، والذاكرة التي تخترق، والانتماء الذي يباع. في لحظة تبدو فيها الأمور هشة، تبدو سوريا وكأنها تقتل مرتين: مرة بخناجر من الخارج، ومرة بصمت من الداخل. فهل يمكن أن يكون العدو أقرب من الأخ؟ وهل يعاد تشكيل الانقسام باسم "الحياد"؟ وهل من يتوارى خلف ستار الصمت لا يساهم في الجريمة؟
الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بخط تماس عسكري، بل يعمل على إعادة تشكيل وعي السوريين من خلال ضرب الرموز، وإضعاف الثقة، وبث التشتت. العقوبات الغربية لا تقتل بشكل مباشر، بل تخنق السوري في تفاصيل حياته اليومية، وتبتز الوعي الجماعي بأن "الحياة لا تمنح إلا بثمن سياسي". الوجود العسكري الأجنبي (الأمريكي، الروسي...) على الأراضي السورية يفرغ السيادة من معناها، ويحول سوريا إلى رقعة شطرنج تتقاذفها المصالح لا المبادئ.
الخرائط الجديدة لا ترسم بالحبر، بل تخدش على جدار الوعي، حين يعاد تعريف العدو، ويمنح الخائن صفة "الطرف"، والمخرب صفة "الحيادي". كل صراع خارجي يجد له وكلاء في الداخل، يشرعنونه ويغلفونه بالحقوق والمظلومية، ويبيعونه في السوق السياسية بأبخس الأثمان.
في السويداء، لا تنطلق الفوضى من فراغ، بل من خطاب ديني يقدم نفسه كـ"وسيط للسلام"، بينما يشيح بوجهه عن الميليشيات والتمويل والمخدرات والسلاح. الشيخ حكمت الهجري يدعو إلى التهدئة، لكن لا يدين الجناة بوضوح، فأي حياد هذا الذي يصمت حين تنفجر العبوات؟ وأي "حكمة" تقايض الأمن الوطني بالسكوت عن المشاريع الانفصالية؟
التحالفات العشائرية المشبوهة، والولاءات المناطقية التي تشترى بالمال، تحول سوريا من دولة واحدة إلى فسيفساء كيانية متناحرة. هنا، يتحول "التنوع" من ثروة وطنية إلى خنجر ناعم يغرس في خاصرة الدولة، والتجربة اللبنانية ليست ببعيدة؛ الطائفية السياسية أدخلت كضمانة، لكنها أصبحت قيداً وسبباً دائماً للتعطيل والانقسام.
ليست القضية في من بدأ الخراب، بل في من أصر على استمراره. الخارج وجد في الداخل ثغرات ينفذ منها، والأصابع التي وقعت على تفتيت سوريا لم تكن كلها أجنبية. من عطل الدولة؟ من سوق لفكرة الكيانات؟ من سكت عن الانفصال؟ من مارس "الحياد" وهو يرى سوريا تنهش؟ نعم، في الداخل خونة شرعوا أبواب البلاد قبل أن يصل إليها العدو.
ليس للإعلام أن يكون محايداً حين يكون الوطن في خطر، المحايد هنا ليس نزيهاً… بل شريكاً في الجريمة. الإعلام الوطني اليوم لا يملك ترف التردد، بل عليه أن يفضح، أن يعري، أن يضيء، أن يقول ما لا يقال، "سوريا واحدة" ليست شعاراً… بل مقاومة فكرية ضد التشظي، الإعلام هو آخر المتاريس في معركة الوعي، والسؤال: هل نرتقي به إلى مقام الجبهة؟ أم نحوله إلى مذيع نيات طيبة؟
السؤال الذي لا يغتفر في زمن الخيانة، لا يكفي أن تصمت… الصمت في وجه الخنجر خيانة، الحياد في وجه الانقسام خيانة، الرمادية في زمن القضايا الوجودية خيانة. وفي خضم هذا النزيف، لا بد أن نخاطب من باعوا، من تواطؤوا، من لبسوا قناع الحياد بينما كان الوطن ينزف: "هل فكرتم يوماً، وأنتم تقايضون الوطن بالسكوت أو الدولار أو الوهم، ماذا سيبقى منكم حين تغيبون؟" سؤال لا نطرحه على الشهداء، بل على من قرروا أن يقفوا في النصف المعتم من التاريخ، سؤال لعله يصل، وإن متأخراً، إلى بعض من بقايا ضمير. الوطن