تكشف قراءة متأنية لآليات العمل الإداري في الجهات العامة خلال السنوات الأخيرة عن وجود عوامل تتجاوز مجرد العادة أو الأساليب المتبعة في إدارة العمل. هناك تأثير خفي يعيق تطبيق مفهوم الوظيفة في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، وحالة من الخلل الملموس في تأمين أساسيات العمل الإداري والإنتاجي، وحتى ما يتعلق بالخدمات، نتيجة للحرب التي استهدفت تدمير البنية الاقتصادية والخدمية، وتحول معظمها إلى القطاع الخاص، والأخطر من ذلك، هجرة الكفاءات إلى الخارج.
ترهل مقصود
يثير الاستغراب تجاهل الحكومات السابقة لأمور بالغة الأهمية عند وضع استراتيجيات للجهات العامة، وتكمن الخطورة في عدم إعادة ترسيخ المفاهيم الوظيفية الوطنية القائمة على الانتماء الكامل للوطن وحب العامل للمؤسسة التي يعمل بها، خاصة وأن الأزمة أدت إلى ترهل وظيفي ودخول مفاهيم لا تخدم العملية الإنتاجية والخدمية في القطاعات الحكومية وغيرها. هذا يطرح تساؤلات حول كيفية معالجة ذلك في ضوء توجه الحكومة نحو اقتصاد السوق الحر، وهل هناك مفاهيم جديدة تتناسب مع هذا التوجه؟ والأهم هو معالجة هجرة الخبرات والكفاءات الوطنية من مواقع العمل، وخاصة القطاع العام، وكيف يمكن وقف هذا النزيف المستمر في ظل التوجهات الاقتصادية الجديدة؟
الحسن: اعتماد سياسة الإدارة بالأهداف والتحفيز مقابل الأداء وتشجيع الاستثمار في الكفاءات عبر برامج “الاحتضان الوظيفي” و”العقود الذكية”.
مقاربة بالحل
يقدم خبير التنمية الإدارية “وائل الحسن” معالجة لهذه المشاكل تبدو قريبة من توجه الحكومة في معالجة المشكلات ووقف هجرة الخبرات من مواقع العمل العامة. ويوضح أن ما ذكره يلامس جوهر التحديات التي تواجه القطاع العام في سوريا وغيرها من الدول التي تمر بتحولات اقتصادية واجتماعية عميقة. تتطلب معالجة هذا النزيف المستمر للكفاءات رؤية شاملة تمزج بين إصلاح المفاهيم الوظيفية وتطوير البنية الإدارية وتحفيز الانتماء الحقيقي وتحديث الآليات بما يتماشى مع اقتصاد السوق الحر. فيما يلي بعض المحاور التي يمكن البناء عليها:
إعادة الاعتبار
هناك جانب مهم يجب العمل على تنفيذه خلال المرحلة المقبلة، وهو إعادة الاعتبار للمفاهيم الوظيفية الوطنية من خلال غرس الانتماء من جديد عبر برامج تربوية وتأهيلية تربط أداء العامل بالهوية الوطنية والكرامة المهنية، وتقدير الكفاءة لا الولاء الشخصي في التعيين والترقي، مما يعزز الشعور بالعدالة الوظيفية والانتماء للمؤسسة لا للأشخاص، بالإضافة إلى إعادة صياغة الخطاب الحكومي ليحترم العقل ويحتفي بالكفاءة، بدلاً من تكرار الشعارات التي فقدت أثرها وفعاليتها.
هيكلة جديدة
الأمر الثاني الذي يجب العمل عليه بسرعة هو إعادة هيكلة القطاع العام بما يتلاءم مع اقتصاد السوق، من خلال عمليات تحفيز الأداء بمؤشرات موضوعية تشجع الابتكار والإنتاج، وتحويل القطاع العام من عبء إلى محرك اقتصادي، وتوسيع الشراكات مع القطاع الخاص، وخلق بيئة عمل تنافسية داخل المؤسسات الحكومية نفسها، وتمكين القيادات الشابة، وتدوير المواقع الإدارية لضخ دماء جديدة تعي تحديات العصر وتفكر خارج الصندوق.
بيئات ثلاث
المقصود هنا هو تحديث البيئة الإدارية والرقابية والذاتية من خلال العمل على رقمنة العمليات والخدمات لتقليل البيروقراطية وزيادة الشفافية، مع ضرورة استحداث آليات مرنة للتقييم والمساءلة بعيداً عن المنطق العقابي التقليدي، بل يعتمد على التحسين المستمر، وتوفير بيئة عمل جاذبة على مستوى الحوافز النفسية والمادية، والاهتمام بالتطوير المهني المستمر.
مفاهيم جديدة
يرى الخبير التنموي “الحسن” ضرورة إدخال مفاهيم جديدة تلائم اقتصاد السوق وتطورات الواقع، والانتقال من المفهوم التوظيفي الجامد إلى المفهوم الإنتاجي القائم على القيمة، واعتماد سياسات مثل الإدارة بالأهداف والتحفيز مقابل الأداء وتشجيع الاستثمار في الكفاءات عبر برامج “الاحتضان الوظيفي” و”العقود الذكية”، خاصة للكفاءات المتخصصة، لأن هجرة الكفاءات الوطنية، خصوصاً من القطاع العام، لها تبعات اقتصادية عميقة تتجاوز الخسارة المباشرة في المهارات، إلى خسارات أخرى تبدأ بانخفاض جودة الخدمات والإنتاجية، وتقل فعالية المؤسسات الحكومية بسبب غياب الخبرات، ما يؤدي إلى تراجع جودة الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والنقل، إلى جانب ضعف الأداء التنفيذي، ما يعرقل مشاريع التنمية ويزيد من نسب الهدر المالي والإداري.
خسارة رأس المال
الخسارة الأخرى في رأي “الحسن” تكمن في خسارة رأس المال البشري، وخاصة أن الكفاءات تمثل استثماراً طويل الأمد في التعليم والتدريب، وهجرتها تعني ضياع هذا الاستثمار من دون عائد، كما يصعب تعويض الكفاءات المغادرة بسبب الحاجة للسنوات والخبرات التراكمية، ما يؤدي إلى فجوات حرجة في القيادة والتخطيط.
البطالة المقنّعة
المسألة لا تقف عند هذا الحد، بل هناك خسارة لا تقل خطورة عما سبق، وتكمن في تفاقم معدلات البطالة المقنّعة، وبقاء موظفين غير مؤهلين في مواقع حرجة يخلق ما يسمى بـ”البطالة داخل الوظيفة”، حيث يشغل الفرد منصباً من دون أن ينتج قيمة حقيقية، وهذا يؤدي إلى تشوّه هيكلي في سوق العمل، يزيد من الاعتماد على حلول قصيرة المدى بدلاً من إعادة تأهيل المؤسسات.
ضعف القدرة التنافسية
لا يمكن تجاوز خسارة مرتبطة بالمستوى الخارجي، وتتحدد في ضعف القدرة التنافسية على المستوى الدولي، ما يصعب على الدولة اجتذاب استثمارات أجنبية إذا كانت المؤسسات تفتقر لكفاءات تدير وتعالج المعاملات بفعالية، ويؤثر على سمعة الدولة في المؤشرات العالمية المتعلقة بجودة الحوكمة والابتكار والتعليم، ما يحد من اندماجها في الاقتصاد العالمي. وهذا يقودنا إلى خسارة أخرى، تكمن في حدوث خلل في التوازن التنموي، حيث تتركز الكفاءات في القطاع الخاص أو خارج البلاد، بينما تزداد المناطق الريفية والقطاعات الخدمية تهميشاً، الأمر الذي يؤدي إلى اختلال في العدالة التنموية ويفاقم الفجوة بين المركز والأطراف.
شعيب: سياسة “الإبعاد والإقصاء” القسرية الممارسة ضد الخبرات والكفاءات الوطنية أفرغت الوظيفة العامة من مفهومها
منافع مادية
الخبير الاقتصادي المهندس “جمال شعيب” يشاطر “الحسن” في كثير من المحاور التي أثارها سابقاً، مضيفاً أن ذلك كان يمارس في وزارات الدولة ومؤسساتها على نطاق واسع خلال السنوات الماضية، من خلال اتباع سياسة الإبعاد والإقصاء، ليس القسري فحسب، بل مدروس ويمارس بخطوات يحاول الكثير من المنتفعين تقديم التبريرات والحجج لعمليات الإقصاء التي كانت تتم، وخير دليل مكاتب الوزارات والمؤسسات التي تعج بأهل الكفاءة والخبرة، في الوقت الذي كانت فيه المؤسسات بأمس الحاجة لهم، لإنقاذ ما تبقى من هيبة الوظيفة العامة، وإدارة المؤسسات بما يعزز قوة الإنتاج والإدارة، والتي تحقق بدورها الحالة الاقتصادية العامة الجيدة، التي تعكس بصورة مباشرة أولى خطواتها الإيجابية على الواقع الاقتصادي، وزيادة المردودية الإنتاجية، وتحسين واقع العمالة المنتجة، وتعظيم الوظيفة العامة في مجالي الإنتاج والإدارة، بما تحمل من مفاهيم متطورة قادرة على التأقلم مع المستجدات المتلاحقة في عالم الإدارة والإنتاج.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية