الثلاثاء, 5 أغسطس 2025 03:40 AM

لماذا يزدهر الاقتصاد الخفي في ألمانيا رغم تباطؤ النمو؟

لماذا يزدهر الاقتصاد الخفي في ألمانيا رغم تباطؤ النمو؟

يشهد الاقتصاد الألماني انكماشًا منذ سنوات، ولا يُتوقع نمو كبير حتى عام 2025. في المقابل، يشهد الاقتصاد غير القانوني ازدهارًا ملحوظًا، بما في ذلك جميع الأنشطة الاقتصادية التي تتم في الخفاء. ما السبب وراء هذا الازدهار، خاصة مع ارتفاع نسبة هذه الاقتصادات غير الرسمية في الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 11% خلال عام واحد فقط؟

في عام 2024، بلغ حجم الاقتصاد الموازي 482 مليار يورو، متجاوزًا بذلك ميزانية الدولة الاتحادية، وهو أعلى مستوى منذ ما يقرب من عشر سنوات. ويتوقع الخبير الاقتصادي فريدريش شنايدر من جامعة لينس أن يصل الرقم إلى 511 مليار يورو في عام 2025، أي بزيادة جديدة قدرها 6.1%. يراقب شنايدر هذه الظاهرة منذ أكثر من 40 عامًا، ويفضل مصطلح "الاقتصاد الموازي" بدلًا من "العمل غير القانوني".

في مقابلة مع DW، يقول شنايدر: "هذه أنشطة اقتصادية قانونية في الأصل، مثل إصلاح السيارات أو التنظيف، لكنها تُنجز خارج نطاق رقابة الدولة دون دفع أي ضرائب أو مساهمات اجتماعية"، وتُعرف بـ "العمل الأسود". ويضيف أن الأنظمة القانونية، مثل الحد الأدنى للأجور أو الحد الأقصى لساعات العمل، لا تُطبق في هذه الحالات.

بالمقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي، تحتل ألمانيا مرتبة متوسطة بين الدول الصناعية فيما يخص الاقتصاد الموازي، بنسبة تتراوح بين 11 و12%. أما في رومانيا، فتصل النسبة إلى 30%، وفي اليونان حوالي 22% من الناتج المحلي الإجمالي. للوصول إلى هذه الأرقام، يقارن الباحث في المقام الأول كمية النقود المتداولة بحجم النشاط الاقتصادي الرسمي.

ما هي العوامل الحاسمة وراء ارتفاع العمالة غير القانونية والاقتصاد الموازي؟ يؤكد شنايدر أن شعور المواطنين بدفع ضرائب ومساهمات مرتفعة يلعب دورًا مهمًا. ويقول: "في ألمانيا، يشعر الناس بشكل واضح بأن خدمات القطارات سيئة وأن العديد من الجسور والطرق السريعة متهالكة وتحتاج إلى إصلاح، مما يؤدي إلى اختناقات مرورية وتأخيرات طويلة. وعندما يشعر المواطن أنه لا يحصل من الدولة على خدمات جيدة مقابل ما يدفعه، فإن التزامه بدفع الضرائب يتراجع".

لا يستغرب الخبير الاقتصادي الألماني النمساوي، شنايدر، من أن الكثير من الناس يعملون بشكل غير قانوني. وبالنسبة إليه، تُعتبر العمالة غير القانونية "تمرداً ضريبياً من المواطن البسيط". وليس المقصود هنا التهرب الضريبي على نطاق واسع، بل "بالنسبة للمعلم تكون هنا الدروس الخصوصية وبالنسبة لعامل تركيب البلاط يكون الحمام المُبلّط". ويضيف شنايدر: "عندما تكون الأعباء الضريبية مرتفعة، وفي المقابل تكون خدمات الدولة ممتازة يمكن تقبّل ذلك. لكن في ألمانيا لدينا وضع يتمثل في أن العبء الضريبي مرتفع جداً أي أن نسبة الاقتطاعات من الأجور عالية، في حين أن ما تقدمه لي الدولة مقابل ذلك غير مرضٍ في نواحٍ كثيرة".

عندما ترتفع معدلات البطالة وتقل الطلبات ولا يتم القيام بساعات عمل إضافية ويتم تقليص ورديات العمال، حينها يحل وقت ازدهار العمالة غير القانونية. ويقول شنايدر إن الأشخاص المتأثرين يفكرون بهذه الطريقة: "الآن أصبح لديّ دخل أقل من عملي الرسمي، لكنني لا أزال أرغب في قضاء إجازة أو الاستمتاع بأمور أخرى. والطريقة الأسهل لتحقيق ذلك هي العمل بشكل غير قانوني لتعويض النقص". ويضيف: "وهذا ما ألاحظه منذ أكثر من 40 عامًا: عندما يضعف الاقتصاد تزدهر العمالة غير القانونية" في ظل الانكماش الاقتصادي.

يُثار جدل كبير في الأوساط الألمانية حول دعم المواطنين. ويعتقد المنتقدون أن المساعدات والإعانات الاجتماعية المرتفعة في ألمانيا تُشجّع على العمالة غير القانونية أي "العمل الأسود". ويقول شنايدر إنه بعد رفع قيمة الإعانات الاجتماعية التي تعرف بأموال المواطنين (Bürgergeld) بنسبة تفوق 12% اعتبارًا من بداية يناير 2024 "تخلّى حوالي 88 ألف إلى 100 ألف شخص عن وظائفهم البسيطة وهي وظائف في قطاعات تعاني من نقص في الأيدي العاملة". وتجدر الإشارة إلى أن أكثر من ثلث ميزانية الدولة الاتحادية يُخصص حاليًا بالفعل لقطاع العمل والشؤون الاجتماعية.

بحسب موقع البرلمان الألماني، تتوقع وزيرة العمل، بيربل باس، أن تصل نفقات إعانات المواطنين (Bürgergeld) في عام 2025 إلى ما يقارب 52 مليار يورو أي أكثر بحوالي خمسة مليارات يورو مقارنة بالعام السابق. من هذا المبلغ يُخصّص حوالي 29.6 مليار يورو للمدفوعات الشهرية لحوالي 5.64 مليون شخص من مستحقي هذه الإعانات. كما تم تخصيص حوالي 13 مليار يورو لتغطية تكاليف الإيجار والتدفئة، أما الباقي فيُوجّه لبرامج إدماج العاطلين عن العمل وتأهيلهم لسوق العمل وتكاليف الإدارة.

النقاش حول الإعانات وعبئها الثقيل على الدولة والميزانية الاتحادية حاد وفي أوجه. وقد اقترح المستشار فريدريش ميرتس وضع حدود للدعم المخصص للسكن لمتلقي هذه الإعانة، وهو ما قوبل بانتقادات شديدة من بعض أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الشريك في الائتلاف الحكومي والمعارضة. واعترفت الوزيرة بيربل باس مؤخرًا بأن الدعم الحكومي يجذب أيضًا مجرمين. ففي مقابلة مع مجلة “شتيرن” تحدثت عن وجود “هياكل مافيوية” في حالات الاحتيال على نظام الدعم الاجتماعي.

هذا المزيج من العمالة غير القانونية والاحتيال على الدعم الاجتماعي، لاحظه ماركوس كاربوم بشكل متكرر. وهو مدرّب قدم العديد من الدورات التدريبية للتأهيل الوظيفي لمتلقي الإعانة الاجتماعية “أموال المواطنين” في منطقة برلين الكبرى. ويُطلق على هذا المزيج من العمل القانوني والعمل الأسود والإعانة اسم “نموذج الأجر التكاملي الخاص”.

يقول ماركوس كاربوم في حديثه مع DW “هناك أصحاب عمل لا يقدّمون لموظفيهم عدداً كافياً من ساعات العمل بحيث لا يستطيع الموظف الاعتماد على هذا الدخل وحده لتغطية نفقاته.” ويوضح بأن “نموذج الأجر التكاملي الخاص” يتكوّن من ثلاث مكونات: دخل قانوني من وظيفة بدوام جزئي أو ما يُطلق عليه بالالمانية “ميني-جوب” ودخل غير قانوني من عمل أسود خاصة في قطاعات مثل قطاع المطاعم والتي “تكون عرضة للتعامل بالنقود غير المصرح بها”. والجزء الثالث يتمثل في ما يقوله صاحب العمل للموظف الذي لا يكفيه هذا الدخل للعيش: “بإمكانك الحصول على الباقي من مركز العمل (Jobcenter).”. ويضيف كاربوم “هذه هي المكونات الثلاث التي لاحظتها كثيرا في عملي المهني”.

ويضيف أن هناك أيضاً نوعاً من عقلية المطالبة بالحقوق، حيث يقول أحدهم “أنا أمتلك حق الحصول على إعانة أموال المواطن-Bürgergeld، وأمتلك حق الاستفادة من المساعدات الاجتماعية. لا تأخذوا مني هذا الحق أو تمنعوا هذه الأموال عني”، ويعلق كاربوم هكذا “يمكننا وصف هذه الذهنية (الاحتيالية)”.

ويقول كاربوم إنه التقى بأشخاص يأتون إلى دورات التدريب على كيفية تقديم طلب لوظيفة أو عمل بسيارات حديثة فارهة ويحملون أحدث الهواتف الذكية ويخبرونه أنهم “يسافرون مرة واحدة في السنة، حسب ما يسمح به مركز العمل هنا لمدة ثلاثة أسابيع مع العائلة بأكملها إلى الخارج لقضاء العطلة”. ويضيف: “هذا الأمر لا يمكن تغطيته من إعانة أموال المواطنين (Bürgergeld)، لكنه يحدث في الواقع العملي. هذه حالات فردية طبعاً ولا نتحدث عن الأغلبية”. ويؤكد: “لكنها تحدث وهذا بالتأكيد مؤشر على وجود احتيال هيكلي”.

ولمكافحة هذا النوع من الاحتيال يرى كاربوم أنه يجب أن يكون هناك مزيد من تبادل البيانات والمطابقة بين الجهات الرسمية المختصة. وهذا ما تخطط له أيضاً الحكومة الائتلافية مثل التنسيق بين مراكز العمل والجمارك التي تتولى مكافحة ومراقبة حالات العمالة غير القانونية “العمل الأسود”. ويتفق معه في ذلك أيضاً الخبير الاقتصادي فريدريش شنايدر. لكن بعد حوالي 40 عاماً من التحليل العلمي يعرف هذا الاقتصادي أن العامل الأهم هو ازدهار الاقتصاد: “عندما نكون في مرحلة ازدهار مطلقة تنخفض العمالة غير القانونية أيضاً”. وأشارت إلى هياكل استغلالية يُستدرج فيها أشخاص من الخارج إلى ألمانيا ويتم تشغيلهم بشكل غير قانوني من قبل مجرمين، بينما يتقدّمون في الوقت نفسه بطلب للحصول على الدعم الحكومي! (DW)

مشاركة المقال: