مع سقوط نظام الأسد وغياب أي صفة قانونية أو إدارية أو عسكرية لـ"هيئة تحرير الشام"، تعتبر مراكز الاحتجاز التابعة لها غير شرعية ويجب إغلاقها وإحالة الملفات الجنائية إلى النيابة العامة.
في إدلب، وخلال حديثه عن “انتصار الثورة” وانتهاء معاناة الشعب السوري، وخلال مراسم إشهار الهوية البصرية الجديدة في الثالث من تموز/ يوليو الماضي، ذكر الرئيس السوري أحمد الشرع عبارة “وأن سجونكم قد حُلت” في إشارة إلى إفراغ سجون نظام الأسد البائد، بينما سجون هيئة تحرير الشام، التي كان يتزعمها، ما زالت تحتجز معتقلي رأي حتى الآن.
جاءت زيارة الشرع بعد أسبوعين من زيارة فاطمة العبود لزوجها عبد الرزاق مصري، 41 عاماً، المعتقل في سجن حارم المركزي بمحافظة إدلب (أحد سجون هيئة تحرير الشام)، بتهمة الانتماء ل، كما قالت لـ”سوريا على طول”. وهو واحد من معتقلي الرأي في سجون الهيئة سابقاً، المعتقلين بتهم مختلفة.
وثق المركز السوري للإعلام وحرية التعبير بين عامي 2015 و2024 اعتقال هيئة تحرير الشام تعسفياً للعديد من الأشخاص في مناطق نفوذها، بسبب قيامهم بتصوير مظاهرات مناهضة للهيئة، تغطية اعتصامات أهالي المعتقلين، التعبير عن آراء ناقدة على وسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك عن اتهامات بالتعامل مع جهات “معادية” منها التحالف الدولي، كما قال د.أيمن هدى منعم، مدير المكتب القانوني في المركز لـ”سوريا على طول”.
حزب التحرير “مناهض لأي جهة حاكمة وقد يؤدي نشاطه إلى أخطار أمنية أكثر من كونها فكرية”، بحسب الباحث السوري عرابي عرابي، ومع ذلك “لا بد من الإفراج عن معتقلي الحزب مع الحدّ من نشاطهم”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
بمعزل عن الجدل الواسع حول حزب التحرير، الذي يدعو إلى الخلافة الإسلامية من دون التعاطي مع العمل العسكري، وموقف السوريين منه، إلا أنه “طالما يطرح المنتسبون إليه فكراً أو رؤية سياسية ويعبرون عن رأيهم بطرق سلمية فإنهم معتقلو رأي”، كما قال المحامي غزوان قرنفل، المقيم في تركيا لـ”سوريا على طول”.
تزور العبود زوجها مصري مرة واحدة كل 35 يوماً، ولمدة 15 دقيقة، كانت آخرها في 16 حزيران/ يونيو، وحينها أخبرها زوجها بأنهم سألوا مدير السجن عندما سمعوا بإطلاق سراح ضباط لنظام الأسد من سجون إدلب، كانوا قد اعتقلوا في عامي 2012 و2013، “ماذا عنا نحن؟”، فرد المسؤول: “حكمكم سلطاني إن أراد الشيخ أخرجكم وإن أراد أن تبقوا سنبقيكم هنا”، وفقاً للعبود.
في زيارتها الأخيرة، طلبت العبود أن تلتقي بزوجها وجاهياً من “دون شبك فاصل” لأنها لا تستطيع الوقوف بسبب كسر في قدمها، لكنهم رفضوا رغم أن “من يملك واسطة يدخل دون شبك”، كما ذكرت في منشور لها على فيسبوك.
خرجت العبود والعديد من ذوي المعتقلين في سجون إدلب في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بساحة سعد الله الجابري في حلب، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، لكن “السلطات اعتقلتني مع ثمانية نساء كنّ برفقتي، وتم إطلاق سراحي بعد 13 يوماً”، وحينها “كنت حاملاً بابنتي آمال الشام، التي تبلغ الآن سبعة أشهر من عمرها”، كما قالت.
الانتماء لحزب التحرير
في الثامن من أيلول/ سبتمبر 2024، اعتقل عبد الرزاق مصري من معصرة زيت في مدينة جسر الشغور غرب إدلب، التي ينحدر منها. أوقف في سجن جسر الشغور لمدة أسبوع، تعرض خلاله للتعذيب، ثم نقل إلى سجن سرمدا، ومنها إلى سجن المعصرة في بلدة قاح بريف إدلب الشمالي، وأخيراً إلى سجن حارم المركزي.
وقبل اعتقاله الأخير، اعتقل مصري مرتين: الأولى في عام 2019، لمدة سبعة أشهر. والثانية، في أيار/ مايو 2023، لمدة 11 عشراً شهراً، وكلها بتهمة الانتماء إلى حزب التحرير، كما قالت زوجته.
مصري واحد من أصل 38 معتقلَ بتهمة الانتماء لحزب التحرير، كما قال عبدو الدلّي، عضو المكتب الإعلامي للحزب في سوريا لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أنهم معتقلون منذ منتصف عام 2023 عبر مداهمات فجراً، أو اعتراض طريقهم بسيارات الشرطة وإطلاق الرصاص، من بينهم رئيس المكتب الإعلامي للحزب ، وهو معتقل سابق في صيدنايا.
وشدد الدلّي على أن هؤلاء “معتقلي رأي” وهم “ممنوعون من توكيل محامٍ لهم، ولم يُعرضوا على قاضي تحقيق”، وفوق ذلك “لا تخضع سجون إدلب لرقابة حقوقية، وخدمات المعتقلين فيها من الناحية الغذائية والطبية سيئة جداً”.
وقال الدلّي إن “المعتقلين أوقفوا تحت بند حكم سلطاني أو توقيف أميري، وهو توقيف تعسفي يُعرف بهذا الاسم في إدلب، من دون توجيه تهم واضحة بحقهم، سوى أنهم طالبوا بتحريك الجبهات ضد نظام الأسد”.
اعتقالات تعسفية
منذ 12 كانون الأول/ ديسمبر 2016، لا يعرف عبد القادر طوبل شيئاً عن ابنه أحمد طوبل “المختفي قسرياً منذ ذلك التاريخ، بينما مجرمي الأسد طلقاء!”، كما قال لـ”سوريا على طول”، مناشداً السلطات السورية تقديم أي معلومات تكشف عن مصير ابنه.
كان أحمد قيادياً في اللواء 51 التابع للجيش السوري الحر، عندما حدث خلاف بينه وبين قائد أمني في جبهة النصرة آنذاك، الذي طلب منه سلات غذائية كان أحمد يريد توزيعها في معرة النعمان، ولكن بعد انتهائه من توزيعها “اختفى”، بحسب والده، الذي صار معيلاً لأحفاده الثلاثة.
ويعرف طوبل اثنين من أصدقاء ابنه في الجيش الحر اعتقلوا في سجون “الهيئة”، أحدهم كوضع ابنه مختف قسرياً وهو محمد عبد الباسط خشان، والثاني إبراهيم خشان، الذي توفي في السجن، كما قال.
وقع طوبل ضحية الابتزاز أثناء رحلة البحث عن ابنه، طلب شخص منه مبلغ خمسة آلاف دولار، فرهن منزله من أجل تأمين المبلغ، ولكن بالنتيجة “خسرت المبلغ ولم أعرف شيئاً عن مصيره”، إلا معلومة “وردتني من معتقل كان معه في سجن شاهين [الذي يقع في مبنى سجن إدلب المركزي] بأن ابني تعرض للتعذيب وكان يعاني من مرض في المعدة”.
وفي قصة أخرى، اعتقلت هيئة تحرير الشام وعمّه محمد، الذي كان يشغل رئيس المجلس المحلي في قرية كفر حمرة بريف حلب الشمالي، أثناء مداهمة منزل الأخير في قرية ترمانين بريف إدلب، في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2018، كما قال عمر حمّادة والد جمعة وشقيق محمد لـ”سوريا على طول”.
منذ اعتقالهما، قدم حمّادة عدة شكاوى في محاكم سرمدا من أجل “الكشف عن مصيرهما”، لكن لم يحصل على أي معلومات إلى أن أخبره “أمير في هيئة تحرير الشام قبل عامين بأنهما قتلا بعد فترة قصيرة من اعتقالهما، دون أن يكشف عن مكان الدفن”، وفقاً له.
اعتقل العمّ وابن أخيه على خلفية “حدوث اشتباكات بين الجبهة الوطنية للتحرير وهيئة تحرير الشام” في مدينة كفرحمرة، رغم “أنهما غير مرتبطين بأي فصيل عسكري ولا علاقة لهما بالاشتباكات”، كما أوضح حمّادة.
قال ثلاثة معتقلين سابقين في سجون هيئة تحرير الشام لـ”سوريا على طول” أنهم واجهوا تهماً بالتحريض ضد الهيئة، ولم يفرج عنهم إلا بعد توقيع تعهد بعدم المشاركة في احتجاجات جديدة مع التهديد بإنزال عقوبات أشد بحقهم، فيما بقي معتقلو حزب التحرير رهن الاحتجاز لرفضهم التوقيع.
وتعرض السجناء لانتهاكات جسيمة تمثلت بالتعذيب منذ لحظة التوقيف واحتجازهم في زنازين انفرادية ضيقة أو مهاجع مكتظة تسببت بأمراض مزمنة لبعضهم، دون خضوعهم لمحاكمات حقيقية، كما قالوا.
في السنوات السابقة، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 46 مركز احتجاز دائم تابع لهيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا، بحسب تقريرها المنشور عام 2022، مقدّرة حينها وجود 2327 محتجزاً/مختفٍ قسرياً في هذه المراكز، يتعرض الغالبية العظمى منهم لشكل من أشكال التعذيب، إضافة إلى ما لا يقل عن 116 مركز احتجاز مؤقت، تجري فيها عمليات التحقيق والاستجواب.
ومع سقوط نظام الأسد، وغياب أي صفة قانونية أو إدارية أو عسكرية لهيئة تحرير الشام، “تُعد مراكز الاحتجاز التابعة لها غير شرعية، ويجب إغلاقها فوراً وإطلاق سراح جميع المحتجزين، مع إحالة الملفات الجنائية إلى النيابة العامة المخولة وحدها بالبت في التوقيف”، بحسب منعم، من المركز السوري.
وبموجب الإعلان الدستوري، يحصر إنشاء الجيش والسلاح بيد الدولة (المادة 9)، ويكفل حق التقاضي ويفترض أن المتهم بريء حتى صدور حكم قضائي مبرم (المادتان 17 و18)، مع حظر التعذيب والاحتجاز التعسفي، بحسب منعم.
مفارقات السلم الأهلي “يعيش ذوو المعتقلين واقعاً مؤلماً بإطلاق سراح مجرمي الأسد مثل ، الذي بدوره لإطلاق سراح مئات المتهمين بجرائم حرب، بينما يقبع معتقلو الرأي في السجون حتى الآن”، قال الدلّي مضيفاً: “هذا التمييز جعل الأهالي يطلبون من الدولة أن تعامل أولادهم كما تعامل شبيحة النظام البائد!”.
انتقد العديد من الناشطين استمرار توقيف عشرات الأشخاص في إدلب بسبب رفضهم سياسة هيئة تحرير الشام سابقاً، مقابل الإفراج عن متهمين بارتكاب جرائم، بدعوى تحقيق السلم الأهلي، وأطلقوا حملة مناصرة لهم تحت وسم: “أفرجوا عن معتقلي الرأي بإدلب”.
في تصريح مقتضب، صرح عضو لجنة السلم الأهلي، حسن صوفان، خلال مؤتمر صحفي عقد في وزارة الإعلام بدمشق، العاشر من حزيران/ يونيو، أن هناك المزيد من الموقوفين سيتم الإفراج عنهم قريباً في إدلب، دون الإشارة إلى خلفية هؤلاء الموقوفين أو جرمهم.
حاولت “سوريا على طول” الحصول على تصريح رسمي من وزارة العدل السورية حول ملف المعتقلين في سجون هيئة تحرير الشام سابقاً، التي تمثل حالياً أساس الإدارة السورية الجديدة، لكنها لم تتلق أي ردّ حتى لحظة نشر هذا التقرير.
قال منعم: “إن أي سلام مستدام في سوريا يتطلب عدالة انتقالية تضمن المحاسبة والإنصاف للضحايا وتمنع الإفلات من العقاب، مع رفض التسامح الانتقائي الذي يعيد إنتاج الظلم، ويشمل ذلك فتح ملفات الاعتقال بشفافية وإجراء محاكمات عادلة وفق المعايير الدولية، كخطوة أساسية نحو إنهاء النزاع وبناء مستقبل آمن لجميع السوريين”.
من جهته، اعتبر المحامي زيد العظم، المقيم في فرنسا أن ما يجري بحق معتقلي الرأي في إدلب من توقيف على خلفية التعبير السلمي عن الرأي –سواء كان سياسياً، اجتماعياً، دينياً– يمثل شكلاً واضحاً من الاعتقال التعسفي، كما يُعرف في القانون الدولي، لاسيما في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 9 والمادة 14).
كما أن منع المعتقلين من توكيل محامين للدفاع عنهم، واحتجاز الأفراد دون محاكمة عادلة، يخرق بشكل صريح مبدأ “الحق في الدفاع”، وهو من الحقوق الجوهرية في أي نظام قانوني عادل، وهذا يحمل السلطات الانتقالية الجديدة مسؤوليات قانونية وأخلاقية، كما أضاف العظم لـ”سوريا على طول”.
بينما تعمل السلطات السورية الحالية على ملف معتقلي نظام الأسد، يواصل ذوو معتقلي الرأي في إدلب تذكير دمشق بأبنائهم المعتقلين في سجون إدلب. وفي هذا الإطار، خرجت مظاهرات في مدينة الباب بريف حلب، في 27 حزيران/ يونيو الماضي، وأخرى في مدينة السفيرة جنوب حلب، للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين في إدلب.
فاطمة العبود واحدة من هؤلاء، توازن بين رعاية أطفالها الخمسة والمشاركة في الوقفات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين، بما فيهم زوجها عبد الرزاق مصري، متأملة أن تستجيب السلطات السورية ويجتمع الأب بأطفاله.