التريمسة: قرية وادعة تنهض من جديد بعد عودة الآلاف إليها
في ريف حماة الشمالي، تستعيد قرية التريمسة الوادعة، التي شهدت ماضياً داميًا، نبض الحياة بعودة آلاف السكان المهجرين إلى ديارهم. بعد سنوات من النزوح والشتات، يجتمع الأهالي مجددًا لبناء مجتمعهم ومداواة جراح الماضي.

أثناء القيادة من شرق مدينة حماة باتجاه جبال الساحل السوري، يتحول المشهد تدريجيًا من غبار الصحراء الجافة إلى اخضرار يسرّ الناظرين. وعلى الطريق المتعرج، تظهر التريمسة شامخة على تلة، تستقبل زوارها بينابيعها الصافية وأشجار الخوخ والرمان الوارفة وبركة مياه تعج بالأسماك، مع تغريد العصافير الذي يملأ الأجواء.
بسام الجاسم، البالغ من العمر 40 عامًا، يتمدد مع اثنين من أصدقائه على البلاط في منزل لؤي سوتل، يحتسون القهوة ويتجاذبون أطراف الحديث، مستعيدين ذكريات الماضي ويتطلعون إلى المستقبل.

غالبية سكان التريمسة، الذين يبلغ عددهم 14 ألف نسمة، نزحوا إثر المجزرة التي وقعت في 12 تموز/ يوليو 2012، عندما تصاعدت الاحتجاجات ضد نظام الأسد في القرية التي كانت تضم مقاتلين من الجيش السوري الحر. يتذكر جاسم ذلك اليوم قائلاً: "قبل طلوع الشمس، وجدنا أنفسنا محاصرين بالدبابات والجنود".
على مدى أربع ساعات، قصفت قوات الأسد القرية، ثم اقتحمتها قوات برية وميليشيات موالية، ونفذت عمليات إعدام ميدانية. وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 67 مدنياً، بينهم أطفال ونساء. بينما تشير تقديرات أخرى إلى أن عدد القتلى تراوح بين 100 و300 شخص.
بعد سيطرة نظام الأسد على التريمسة، لم يتمكن الجاسم من البقاء، فنزح إلى بلدة أطمة الحدودية مع تركيا، حيث قضى 12 عامًا في مخيمات النزوح. تزوج هناك ورُزق بثلاثة أطفال، وكان يحكي لهم قصصًا عن التريمسة وجمالها.
بعد سقوط النظام، أتيحت للجاسم وعائلته فرصة العودة إلى التريمسة. يلعب أطفاله الآن في بساتين القرية، ويكتشفون الحيوانات والنباتات لأول مرة في حياتهم.
يشير الجاسم، الذي أصبح رئيس بلدية التريمسة الجديد، إلى أن عدد سكان القرية تضاعف بعد عودة نحو 20 ألف شخص. وفي منتصف حزيران/ يونيو، قدرت مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أن نحو نازح سوري داخلياً و يعيشون في الخارج عادوا إلى منازلهم منذ سقوط الأسد.

كثير من العائدين إلى التريمسة كانوا في مخيمات أطمة، بينما عاد آخرون من أماكن أخرى داخل سوريا أو من خارجها. يحاولون استعادة علاقاتهم وربط حاضرهم بماضيهم.
لؤي سوتل، الذي بقي في التريمسة بعد مجزرة 2012، يروي كيف كانت القرية تحت رقابة مشددة من النظام، وكيف كان التواصل مع الجاسم يشكل خطرًا كبيرًا عليه.
يعمل سوتل حالياً مع الجاسم في مجلس بلدية التريمسة، ويلاحظ الجاسم أن الخوف ما يزال يسكن صديقه.
يذكر الجاسم أن ظروف المعيشة في أطمة كانت صعبة، لكنهم كانوا يعيشون بكرامة وحرية، بينما كان الوضع في التريمسة مختلفًا.
ذكريات مجزرة 2012 منقوشة في ذاكرة سكان التريمسة، ولا تزال ندوبها حاضرة في كل زاوية من شوارع القرية. بعض العائدين وجدوا بيوتهم ومحلاتهم منهوبة.
ممدوح الصطوف وجد منزله مكسور الأبواب بعد عودته، ويقول إن الشبيحة اقتحموا بيته وأخذوا كل شيء.
في شمال حماة وجنوب إدلب، أدت سنوات من عمليات النهب المنظم إلى تجريد كثير من المباني من كل ما له قيمة مادية.
منزل الصطوف يقع بالقرب من منزله القديم، حيث كان ابن عمه محمد طبيباً. خلال مجزرة 2012، حوّل الطبيب منزله إلى مستشفى ميداني، لكن قوات الأسد هاجمته وقتلت عدداً من الجرحى داخله، واعتقل الطبيب محمد واقتيد إلى سجن صيدنايا.
يقول الجاسم إن أهالي التريمسة فتحوا صفحة جديدة، في محاولة للتعافي من أحداث الماضي ولا يريدون الانتقام.
في أماكن أخرى من محافظة حماة، تعرضت قرى ذات غالبية علوية لهجمات جماعية، واتُهمت بارتكاب فظائع خلال فترة حكم الأسد.
يأمل الجاسم في التركيز على إعادة الإعمار، ويقول إن التريمسة بحاجة إلى خدمات جيدة لأطفالها، مشيراً إلى أنها لم تتلقَّ أي مساعدة من منظمات دولية أو محلية.
يبدأ الأهالي بما يستطيعون فعله كمجتمع، ويجمعون المال لشراء خزان مياه جديد ومعالف، ويتبرعون بالخبز لمن هم بحاجة.
في منزل الجاسم، تجلس زوجته مروة ناصر الأحمد مع شقيقتي زوجها، ويتبادلن الأحاديث حول طبق من العنب الطازج. تقول الأحمد إن العودة جميلة جداً، لكن هناك ضغط كبير، حيث يعيش عشرة أشخاص في غرفتين صغيرتين.
رغم ذلك، يبقى الوضع في التريمسة أفضل بكثير مقارنة ببعض القرى المجاورة، التي تعرضت لدمار أكبر.
تنحدر عائلة الأحمد من بلدة الحماميات، التي دُمّرت بالكامل خلال المعارك. عاد والداها بعد سقوط النظام، لكنهما لا يزالان يعيشان في خيمة نُصبت فوق ركام منزلهما المدمر.
تقول سهام الأحمد الزيدي، عمة الأحمد، إنه لا يوجد شيء في الحماميات، لا ماء ولا أي شيء.
في التريمسة، يتوجه الجاسم وأصدقاؤه إلى مقبرة على مشارف القرية، حيث دُفن ضحايا المجزرة على عجل. يتحدثون عن أصدقائهم الذين يرقدون تحت التراب.
يستذكر سوتل كيف استخدمت القرية النايلون لتكفين القتلى لعدم وجود أكفان قماشية.
يقول الجاسم إن الصدمة التي مرت بها البلدة زادت من تلاحم أهلها.
مع غروب الشمس، يتجمع القرويون تحت الأشجار، يضحكون ويأكلون الفواكه ويشربون المتة. يتراكض الأطفال في الحقول، بينما يعتني رجل مسن بخلايا نحلِه.
يروي الجاسم وأصدقاؤه ذكريات مباريات كرة القدم التي كانت تُقام بين التريمسة والقرى المجاورة.
يتسامر الأصدقاء حتى ساعات الفجر الأولى، حيث أكواب الشاي والأحاديث الدافئة، والأهم من ذلك دفء اللقاء بعد سنوات طويلة من الفُرقة.
