السبت, 16 أغسطس 2025 07:41 AM

قراءة في رواية "حورية والوحش": تفكيك الهوية الجندرية وتمثيلات الذات في خطاب سردي ما بعد حداثي لفاطمة محمود سعد الله

قراءة في رواية "حورية والوحش": تفكيك الهوية الجندرية وتمثيلات الذات في خطاب سردي ما بعد حداثي لفاطمة محمود سعد الله

تستكشف رواية "حورية والوحش" للأديبة التونسية فاطمة محمود سعد الله، من خلال قراءة في خطاب سردي ما بعد حداثي، تفكيك الهوية الجندرية وتمثيلات الذات. تنطلق الرواية من مفهوم أن "الجندر ليس ما نحن عليه، بل ما نفعله مراراً وتكراراً" كما ذكرت جوديث بتلر، لتكشف هشاشة التصور الجوهراني للهوية الجندرية، وتظهر الذات كأداء لغوي قابل للتشكل والتفكك.

تتجاوز الرواية، التي تنتمي إلى جنس السيرة الذاتية النسائية، الطابع التقريري لتفكيك البنى الخطابية التي صاغت الأنثى كتمثيل رمزي داخل ثقافة ذكورية. وتسائل ثبات الهوية في ظل وعي متحول بالذات واللغة، حيث تتحول الكتابة إلى فعل مقاومة سردية ضد التشييء والتواطؤ الرمزي. تطرح الدراسة سؤالاً محورياً: كيف تعيد الرواية بناء تمثيلات الجسد والهوية الجندرية، لا كخطاب عن المعاناة، بل كبنية رمزية تقاوم التشييء، وتفكك فاعلية الذكر كمرجعية ثابتة؟

تعتمد القراءة مقاربة مركبة تنفتح على النقد التفكيكي لتعرية ثنائيات المعنى وكشف لا استقراريته، والتحليل النفسي اللاكاني الذي ينظر إلى الذات كبنية لغوية تتأسس عبر الانقسام والاختلاف، والنقد النسوي ما بعد البنيوي كما تبلور في طروحات بتلر وراويل كونيل، حيث يفهم الجندر كأداء قسري يمكن فضحه أو إعادة صياغته. هذه المناهج توظف كعدسات تأويلية تحاور الرواية وتفكك طبقاتها.

تتموضع الرواية كخطاب سردي متداخل الطبقات، يكتب الذات الأنثوية وهي تتشكل داخل تماس دائم بين الغياب والحضور، وبين المقاومة والانكسار، وبين الجسد كأثر لغوي، والهوية كفعل تأويلي لا يكتمل. يفتتح الفصل الأول، "في حقل الذكريات"، البنية الرمزية للرواية، بوصفه تمهيداً سردياً يتقاطع فيه الحسي والذهني، الواقعي واللاواعي، عبر ثنائية مركزية تتمثل في شخصيتي عمر وحورية. يتأسس هذا الفصل على تقابل رمزي جوهري: عمر (العقلاني/الواقعي/الذكوري) وحورية (الحلمي/اللاواعي/الأنثوي).

يعيد الفصل الثاني، "خطان متوازيان"، رسم ملامح الهويات النسائية في مجتمع آخذ في التحول، حيث تتوسط حورية فضاءً تأملياً يعري تناقضات القيم السائدة. ينتقل السرد في الفصل الثالث (في الحمام الشعبي) من الواقع الخارجي إلى تمثيل الجسد الأنثوي كفضاء رمزي للمقاومة والقلق. أما الفصل الرابع (غيمة تمطر في الذاكرة)، فيرسم سردية الحنين والانتماء، حيث يتحول المطر إلى محفز رمزي للذاكرة العاطفية والوطنية، وتغدو العلاقة مع عمر تمثيلاً للحب والوطن والهوية.

في الفصل الخامس (حورية)، تبلغ الرواية ذروة التحول من التمثيل الرمزي للجسد الأنثوي إلى سردية وجودية تنهض على التصدع والقلق. يتخذ السرد في الفصلين السادس (في قاعة الانتظار) والفصل السابع (بين القبول والرفض) منحى تصعيدياً على مستوى التوتر الوجودي. تمثل الفصول من الثامن إلى العاشر تصعيداً دلالياً ونقطة انعطاف في السرد، حيث تنتقل حورية من الذروة النفسية للانهيار إلى استعادة رمزية للذات، ثم إلى انكشاف تراجيدي لمأساة نسوية تتجاوز التجربة الفردية.

يشكل الفصلان الحادي عشر (هندة.. والمحطة الأخيرة) والفصل الثاني عشر (جلسة الشيميو الأولى) منعطفاً سردياً كثيفاً، حيث تقدم ثنائية وجودية تتمثل في موت هندة وبداية علاج حورية. يشكّل الفصل الثالث عشر (مملكة الحور) والرابع عشر (خير زاد) بنية سردية مزدوجة تبرز تحول الرواية من التلقي العاطفي إلى الوعي النقدي. يقوم الفصل الخامس عشر (بين الشعر والبحر) على جدلية رمزية بين البحر والشعر.

يندرج الفصلان السادس عشر (أنا. لست أنا) والسابع عشر (الحلم) في مسار السردية النفسية الرمزية للرواية، ويعكسان ذروة التمزق الوجودي الذي تعيشه حورية على تخوم المرض. يندرج الفصل الثامن عشر (الحج إلى القبور) والفصل التاسع عشر (استئصال الثدي) ضمن سردية نسوية تستبطن الألم كتجربة وجودية وجندرية. يتأسس التحليل في هذا القسم على تقاطع العاطفة والقمع كما يتجليان في الفصلين العشرين (“الحب”) والحادي والعشرين (“الاعتقال”).

ينبني الفصل الثاني والعشرين على دراسة دقيقة لتحولات العلاقة بين حورية وريحانة. ينخرط الفصلان الثالث والعشرين (اليد الواحدة.. قد تصفق) والفصل الرابع والعشرين (أي معجزة ستنجيك يا كبدي) في معالجة سردية متقاطعة لثنائية الألم الجسدي والظلم الاجتماعي. ينتقل السرد في الفصلين الخامس والعشرين (العودة) والسادس والعشرين (ميلاد ودادية مرضى السرطان) من مرحلة التلقي السلبي للألم إلى لحظة تحول وجودي.

يتّسم الفصل الأخير (الورقة الأخيرة.. لن تسقط) بطابع رؤيوي رمزي يقترب من الكتابة الصوفية. تساهم الرواية في إثراء السرد النسوي العربي بوصفها مشروعاً كتابياً يزعزع مركزية المعنى ويعيد إنتاج الذات الأنثوية في صيرورة لغوية غير مكتملة. تشكل حورية والوحش إسهاماً نوعياً في إعادة تشكيل السرد النسوي العربي من الداخل.

مشاركة المقال: