الثلاثاء, 19 أغسطس 2025 11:41 PM

البيت الأبيض ودور القوة العظمى: قراءة في السياسة الأمريكية وتأثيرها العالمي

البيت الأبيض ودور القوة العظمى: قراءة في السياسة الأمريكية وتأثيرها العالمي

دمشق – المهندس باسل قس نصر الله: بعد مشهد اجتماع الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” مع قادة أوروبا ورئيس أوكرانيا في البيت الأبيض لعرض رؤيته، وتوافقه مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” حول حل الأزمة الأوكرانية، يتبادر إلى الذهن مسار صعود الدور الأمريكي منذ عهد الرئيس “وودرو ويلسون”.

عندما قال السيد المسيح: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، ظل السؤال مطروحاً: من هو قيصر هذا العصر؟

لقد قدمت الولايات المتحدة نفسها كقوة سماوية لإدارة العالم، وتصرف رؤساؤها كأنهم مفوضون من السماء. ففي مؤتمر فرساي عام 1919، اشتكى الفرنسيون من الرئيس الأميركي “وودرو ويلسون”، واصفين تفاوضه بأنه “كالمسيح”. وعلق رئيس وزراء فرنسا “كليمنصو” ساخراً على نقاطه الأربع عشرة: “لماذا جاء الرب بعشر فقط؟”

لكن خلف هذا المظهر المثالي، اتبعت واشنطن سياسات صارمة. فباسم الديمقراطية، أطاح “ويلسون” بالرئيس المكسيكي “فيكتوريانو هويرتا”، وأدخل بلاده الحرب العالمية الأولى بحجة “أن الحق يعلو على السلام”. ومنذ ذلك الحين، تجسد الدور الأمريكي في “التدخل باسم القيم، والسعي وراء النفوذ”.

ثم جاء “فرانكلين روزفلت” ليعزز هذا الدور، فكتب إلى “هتلر” و “موسوليني” عام 1939 مطالباً بالتزام بعدم الاعتداء على 29 دولة، وكأنه معلم يوجه طلابه. ثم لقاؤه الشهير عام 1945 مع الملك “عبد العزيز آل سعود” على متن البارجة “كوينسي”، ليؤسس لتحالف “النفط مقابل الحماية”، الذي لا يزال يؤثر في العلاقات الدولية.

ولم يقتصر الأمر على السياسة، بل استعان “روزفلت” بصهاينة في صياغة بياناته، حتى أنه مازح قائلاً: “كم سيدفع غوبلز مقابل صورة لرئيس أميركا يتلقى تعليماته من حكماء صهيون؟”، في إشارة إلى وزير إعلام ألمانيا النازية.

بعد الحرب العالمية الثانية، تولت واشنطن القيادة العالمية. وأنشأت “خطة مارشال” لإعادة إعمار أوروبا، لكنها ربطتها بشروط اقتصادية وسياسية ضمنت تبعية اقتصادات القارة العجوز لها. ثم أسست “حلف الناتو” عام 1949، لتتحول من دولة عابرة للمحيط إلى قوة عسكرية متغلغلة في قلب أوروبا.

وفي شرق آسيا، قادت حرب كوريا “1950 – 1953” تحت شعار “الدفاع عن الحرية”، ولكنها كانت في الواقع معركة لإيقاف تمدد النفوذ السوفييتي. وبعدها خاضت حرب فيتنام التي استمرت عقدين، لتصبح صور قصف هانوي وقرى الفيتكونغ مثالاً على الوجه الآخر لـ”الرسالة الأميركية”.

مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، بدت واشنطن القطب الأوحد. وحرب الخليج 1991 دشنت “النظام العالمي الجديد”، كما وصفه جورج بوش الأب، حيث لم يعد هناك رادع أمام تدخلاتها. وتوالت بعدها محطات أخرى: غزو أفغانستان 2001 بذريعة محاربة الإرهاب، ثم غزو العراق 2003 بذريعة أسلحة الدمار الشامل التي لم يتم العثور عليها.

هذه التدخلات لم تقتصر على البعد العسكري. فواشنطن تمتلك “أسلحة ناعمة” لا تقل خطورة: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذان حوّلا دولاً في أميركا اللاتينية وأفريقيا إلى ساحات تجارب اقتصادية قاسية. ثم جاءت سياسة “الثورات الملونة” في أوروبا الشرقية، حيث دُعمت حركات سياسية ووسائل إعلام لتوجيه مسارات الدول بما يخدم المصالح الأميركية.

ومع صعود الصين وعودتها لاعباً اقتصادياً عالمياً، بدأت واشنطن تتحدث عن “احتواء بكين” بنفس اللغة التي استُخدمت ضد الاتحاد السوفييتي. فالحرب التجارية، والتوتر حول تايوان، وبناء تحالفات مثل “أوكوس AUKUS” ليست سوى امتداد لمحاولة الحفاظ على الزعامة الأميركية للعالم.

لكن التجارب تثبت أن الشعوب لا تُقاد دائماً بالعصا ولا بالجزرة. فالهزيمة في فيتنام، ثم الانسحاب من أفغانستان عام 2021، أظهرا أن القوة العسكرية لا تضمن فرض الهيمنة إلى الأبد. وكما قالت إلينور روزفلت: “لا أحد يستطيع أن يجعلك تشعر بالدونية من غير إذنك”.

يبقى السؤال: هل تستطيع أميركا أن توازن بين صورة “القيصر المفوض إلهياً” وواقع القوة الذي يفرض عليها حدوداً؟ أم أن التاريخ سيعيد التذكير بما تعلمناه من تراثنا الروحي: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”.

اللهم اشهد أني بلّغت

مشاركة المقال: