د. محمد الحوراني (كاتب سياسي وأستاذ جامعي): لم تكن التوغلات الأخيرة واللقاءات السرية والعلنية مجرد استباحة من جنود الاحتلال الصهيوني لمناطق في الجنوب الغربي من ريف دمشق، وما تبعها من توغل في قرية “بيت جن” والسيطرة على أجزاء منها بعد التمركز في تل “باط الوردة” على سفح جبل الشيخ، إلا حلقة جديدة في مشروع صهيوني توسعي يهدف إلى تحقيق الحلم التوراتي بإقامة “إسرائيل الكبرى”. هذا الحلم الذي أُعلن عنه منذ عقود، يسعى نتنياهو اليوم إلى تحويله إلى واقع بعد إزالة معظم المعارضين.
سوريا تمثل الحلقة الأهم في هذا المشروع، لذا كان لا بد من السيطرة على مناطق حساسة فيها والتمركز في مواقع استراتيجية، مثل جبل الشيخ الذي بات تحت السيطرة الكاملة لقوات الاحتلال بعد التمركز في تل “باط الوردة”. هذا العدوان والتمدد في الأراضي السورية جاء بعد أيام قليلة من لقاء جمع وزير الخارجية السوري في الحكومة الانتقالية، أسعد الشيباني، بوزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، في باريس برعاية المبعوث الأميركي إلى سورية، توم باراك. لم يكن هذا اللقاء الأول بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين؛ فقد عُقدت اجتماعات في باكو، آخرها في 12 تموز 2025 أثناء زيارة الرئيس الشرع لأذربيجان. وأكدت المعلومات أن الهدف الأساسي من هذه اللقاءات هو التوصل إلى تفاهمات أمنية بشأن جنوب سورية للحفاظ على وقف إطلاق النار.
تأمل حكومة الاحتلال أن تؤدي هذه الاجتماعات، وعلى رأسها لقاء باريس، إلى خطوات سورية أكثر جرأة في اتجاه التطبيع السياسي والدبلوماسي، بعيدًا عن أي التزام بوقف الاعتداءات الإسرائيلية شبه اليومية على الأراضي السورية. ما تريده “إسرائيل” هو تفاهمات أمنية وسلام مقابل الكلام والوعود، دون أي التزام بوقف التوسع والاعتداءات، وهو ما تؤكده ممارساتها في الأراضي الفلسطينية أيضًا. وقد كان وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، الأكثر وضوحًا حين أعلن عن مشروع استيطاني جديد يربط مستوطنة “معاليه أدوميم” بالقدس، وهو المشروع الذي يعني عمليًا دفن فكرة الدولة الفلسطينية، عبر مصادرة آلاف الدونمات وإدخال أكثر من مليون مستوطن إلى الضفة الغربية، وإطلاق مشاريع استثمارية بمليارات الدولارات. ويتم كل ذلك بالتنسيق الكامل بين نتنياهو والإدارة الأميركية الداعمة لهذه السياسات.
كما صوّت الكنيست الإسرائيلي في 23 تموز 2025، وبأغلبية كبيرة، على مشروع قانون فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وغور الأردن، معتبرًا أنهما “جزء لا يتجزأ من الوطن التاريخي للشعب اليهودي”، وداعيًا لاتخاذ خطوات استراتيجية لتثبيت هذا “الحق التاريخي” وتحقيق “الأمن القومي الإسرائيلي”. ما يجري في الضفة وسورية ولبنان ليس سوى تنفيذ عملي لما رسمه نتنياهو في الخرائط التي رفعها على منبر الأمم المتحدة، قائلًا ضمنًا: “هذه هي إسرائيل الموعودة، ونحن نعمل على تحقيقها خطوة خطوة حتى نبلغ النبوءة”.
الرغبة الصهيونية بالتوسع والسيطرة لا تقتصر على دول الجوار، بل تمتد إلى الدول ذات الأهمية الجيوسياسية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ولعل هذا ما قصده ديفيد بن غوريون عندما تحدث عن نظرية “حلف الدائرة” أو “حلف المحيط”، القائمة على تطويق الدول العربية والشرق أوسطية عبر إقامة علاقات استراتيجية مع دول مختلفة تضمن حضورًا إسرائيليًا فاعلًا في محيطها الدولي. ولهذا أولت إسرائيل اهتمامًا كبيرًا بأفريقيا، ولا سيما شرقها، لما لها من أهمية استراتيجية، وساهمت في إذكاء الحروب والنزاعات هناك لتسهيل السيطرة والتحكم بالموارد والقرار السياسي. وكانت إسرائيل ممولًا رئيسيًا لعدد من الدول بالسلاح، بيعًا أو منحًا، وأغرقت المنطقة بالمستشارين والخبراء العسكريين الذين أشرفوا على التدريب وإدارة المعارك. كما أقامت قواعد عسكرية، منها قاعدة في إريتريا، لتوسيع وجودها في أفريقيا ومراقبة التحركات برًا وبحرًا وجوًا، وإطباق الخناق على البحر الأحمر وباب المندب، لتصبح منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل في قلب دائرة المراقبة والسيطرة الإسرائيلية.
أمام هذه الوقاحة والصلف، تبدو المشكلة العربية والإسلامية أكبر من أن تُختزل في ردود الأفعال الباهتة. فلا أحد ينظر أبعد من أنفه، ولا أحد يضع المصلحة العامة فوق مصالحه الضيقة، حتى وإن قادت هذه الأنانية إلى تقسيم الأوطان واستباحتها. أما التضامن مع الشعب الفلسطيني المذبوح في غزة، أو الضغط الحقيقي على الكيان لوقف مسلسل الإبادة والتجويع والتهجير، فلا يكاد يظهر في الأفق إلا كشعارات وإدانات باهتة. لقد فشلت الأنظمة العربية فشلًا ذريعًا في مواجهة المشروع الإسرائيلي، كما فشلت في إدارة أزماتها الداخلية، ما أتاح للكيان الصهيوني استثمار تفوقه العسكري واللعب على ورقة الأقليات والمكونات، التي أخفقت معظم الدول العربية، خصوصًا المحيطة بفلسطين المحتلة، في التعامل معها بحكمة ووعي، لتتحول إلى ورقة رابحة في يد المشروع التوسعي الإسرائيلي (أخبار سوريا الوطن1-الكاتب-لعبة الأمم)