الخميس, 4 سبتمبر 2025 10:20 PM

ورقة بحثية تحدد تحديات العدالة الانتقالية في سوريا وتقترح حلولًا مبتكرة

ورقة بحثية تحدد تحديات العدالة الانتقالية في سوريا وتقترح حلولًا مبتكرة

نشر الصحفي والمدافع عن حقوق الإنسان، منصور العمري، ورقة بحثية تتناول التحديات التي تواجه مسار العدالة في سوريا بعد تشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" في 17 أيار الماضي. الورقة، التي نشرت الأربعاء 3 أيلول في مؤسسة "مبادرة الإصلاح العربي" للأبحاث بعنوان "تعميم العدالة الانتقالية في سوريا: مقترح للتكامل الوزاري"، اعتمدت على مراجعة تجارب دولية ومقترحات عملية.

أكدت الورقة أن معالجة الانتهاكات الواسعة لا يمكن أن تقتصر على لجنة مركزية، بل تتطلب إدماج العدالة الانتقالية في عمل الوزارات نفسها عبر وحدات متخصصة، لتصبح جزءًا من الحوكمة اليومية وإصلاح مؤسسات الدولة. يرى الباحث أن الانتهاكات لم تقتصر على قوات أمن محددة، بل تغلغلت في مختلف أجهزة الدولة، بما في ذلك المسؤولة عن الرعاية الصحية والتعليم والممتلكات، مما يتطلب فهمًا واستجابة خاصة بكل قطاع.

تقترح الورقة نهجًا مختلفًا لبناء سوريا الجديدة، يقوم على إدماج العدالة الانتقالية في عمل الوزارات عبر وحدات متخصصة ترتبط مباشرة بالوزراء وتكون مسؤولة أمام الهيئة المركزية، لضمان تحول مبادئ المساءلة وجبر الضرر وعدم التكرار إلى جزء من الحوكمة اليومية. وأكد منصور العمري أن هذه المقاربة الشاملة ضرورية لمعالجة عمق الانتهاكات وإعادة الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، عبر دمج الضحايا ومطالبهم في السياسات العامة.

نقد للنهج التقليدي في العدالة الانتقالية

توضح الورقة أن العدالة الانتقالية اعتمدت في بلدان ما بعد النزاع على لجان مركزية، مثل لجان الحقيقة أو المحاكم الخاصة أو برامج جبر الضرر. ورغم أهمية هذه الآليات، إلا أنها ظلت معزولة عن مؤسسات الدولة، مما قلل من قدرتها على إحداث تغيير مستدام. وكان الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، قد أصدر في 17 أيار الماضي المرسوم رقم "19"، القاضي بتشكيل هيئة مستقلة باسم "الهيئة الوطنية للمفقودين"، تتولى مهمة البحث والكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرًا، وتوثيق الحالات، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلاتهم.

يشير منصور العمري إلى أن هذا النموذج لا ينسجم مع طبيعة الانتهاكات في سوريا، التي امتدت إلى الصحة والتعليم والإدارة والممتلكات، مما يتطلب مقاربة قطاعية تفصيلية. ويرى أن الاعتماد على لجنة واحدة يضعها أمام مهام تفوق قدراتها، إذ يتعين عليها التحقيق في الانتهاكات وإصدار توصيات والإشراف على إصلاحات، دون امتلاك أدوات التنفيذ المباشرة داخل الوزارات. وأشار منصور العمري إلى أن الأمم المتحدة وخبراءها، مثل بابلو دي غريف، المقرر الأممي السابق، شددوا على أن برامج التعويض تحتاج إلى وزارات عدة، كالصحة والتعليم والإسكان، مما يجعل "المقاربة الحكومية الكاملة" أكثر واقعية وفعالية. وأكدت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" في تقريرها الصادر في 17 نيسان الماضي، أن الخطوة الأولى لتحقيق العدالة الانتقالية تتمثل في تشكيل هيئة وطنية متخصصة، تتمتع بالكفاءة والنزاهة والخبرة، وتضم شخصيات مستقلة تمثل مختلف أطياف المجتمع السوري. وقال مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فضل عبد الغني، إنه لضمان نجاح عملية العدالة الانتقالية في سوريا، من الضروري أن تعمل جميع آليات العدالة الانتقالية بصورة متوازية ومتكاملة تحت إدارة موحدة ضمن إطار هيئة العدالة الانتقالية.

وحدات العدالة الانتقالية في الوزارات

يقترح منصور العمري إنشاء وحدات متخصصة داخل كل وزارة، تتناسب طبيعتها مع عمل الوزارة والسياق التاريخي المرتبط بها. وتكون هذه الوحدات مسؤولة عن مهام مثل إصلاح السياسات الداخلية، ومراجعة ملفات الموظفين المتورطين في الانتهاكات، والمساهمة في البحث عن الحقيقة من خلال الأرشيفات، وتنفيذ برامج جبر الضرر المرتبطة بالقطاع، كتقديم الرعاية الصحية للضحايا عبر وزارة الصحة. وتؤكد الورقة أن أحد أهم أهداف هذه الوحدات هو دمج مبدأ عدم تكرار الجرائم والانتهاكات داخل البيروقراطية السورية، عبر تدريب الموظفين على حقوق الإنسان، وتطوير المناهج التعليمية، واعتماد مدونات سلوك مهنية جديدة. كما ستعمل هذه الوحدات على ضمان تواصل مباشر مع الضحايا والمجتمع المدني.

تنبه الورقة إلى تحديات حقيقية تواجه هذا الطرح، منها ضعف مؤسسات الدولة بعد سنوات النزاع والعقوبات، وخطر أن تتحول هذه الوحدات إلى مجرد هياكل شكلية إذا غابت الإرادة السياسية والتمويل الكافي. يقترح منصور العمري أن يُموَّل عمل الوحدات عبر مزيج من ميزانيات الوزارات، ودعم المانحين الدوليين، والاستفادة من أموال النظام السابق المصادرة بموجب العقوبات.

تجارب دولية ودروس لسوريا

تستعرض الورقة البحثية تجارب دول أخرى لإثبات جدوى هذا النهج. ففي تشيلي، قادت وزارة الصحة منذ 1991 برنامجًا شاملًا للرعاية الطبية والنفسية لضحايا العنف السياسي وأسرهم. وفي كولومبيا، وزعت وزارات الزراعة والإسكان والبيئة أدوارًا محددة لتنفيذ قانون الضحايا وإعادة الأراضي. أما في جنوب إفريقيا، فقد تولت وزارة العدل مسؤولية تنفيذ توصيات لجنة الحقيقة والمصالحة. وفي تايوان، اندمجت مفاهيم العدالة الانتقالية في المناهج التعليمية بدعم وزارة التربية. تستطيع سوريا الاستفادة من هذه النماذج، وفق منصور العمري، عبر تكييفها مع واقعها الخاص. فوزارة الصحة السورية مثلًا، مطالبة بتوثيق استهداف المستشفيات واستخدامها كمراكز تعذيب خلال الحرب، إضافة إلى توفير تعويضات ودعم نفسي للضحايا والأطباء الذين فقدوا وظائفهم. ويمكن لوزارة الأوقاف أن تلعب دورًا في جبر الضرر المعنوي والروحي، فضلًا عن إعادة تنظيم أموال الوقف لدعم الضحايا. أما وزارة التربية، فمهمتها الأساسية إدماج روايات الضحايا في المناهج، وتدريب المعلمين على تعزيز ثقافة التسامح وحقوق الإنسان.

نحو عدالة شاملة ومستدامة

تخلص الورقة إلى أن نجاح مشروع العدالة الانتقالية في سوريا يعتمد على قدرة الوزارات على تبني الإصلاح من الداخل، وإعادة تعريف علاقتها بالمجتمع. ويرى منصور العمري أن هذه الوحدات الوزارية المقترحة ستوفر ملكية وطنية للمسار، وتضمن أن تكون العدالة جزءًا من إعادة بناء الدولة، لا مجرد مبادرة مؤقتة. لكن لتحقيق ذلك، لا بد من قيادة سياسية واضحة، ودعم متواصل من المجتمع المدني، وموازنة دقيقة بين تطهير المؤسسات المتورطة والحفاظ على استقرارها الوظيفي. وبينما تبقى المخاطر كبيرة، فإن غياب هذه المقاربة سيجعل العدالة الانتقالية عرضة للفشل.

مشاركة المقال: