الجمعة, 5 سبتمبر 2025 10:56 PM

فاروق الشرع يكسر صمته: مذكرات تكشف أسرار النظام السوري وموقفه من الحل الأمني

فاروق الشرع يكسر صمته: مذكرات تكشف أسرار النظام السوري وموقفه من الحل الأمني

بعد صمت دام أكثر من عقد، يكسر فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري الأسبق، حاجز العزلة ويكشف عن روايته للأحداث السياسية الأكثر حساسية في تاريخ سوريا الحديث.

تبرز أهمية الجزء الثاني من مذكرات فاروق الشرع (2000-2015)، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في الرسائل الضمنية التي تكشف عن هيكل السلطة داخل النظام السابق. الشرع، الذي شغل منصب وزير الخارجية لعقود في عهد الأسد الأب واستمر في عهد بشار الأسد، ثم نائباً له، اختفى بصمت منذ عام 2013، وسط شائعات عن انشقاقه أو وضعه تحت الإقامة الجبرية.

أوصى الشرع بنشر هذا الجزء من مذكراته بعد وفاته، لكن سقوط النظام دفعه للموافقة على نشرها. المذكرات ليست مجرد سرد شخصي، بل وثيقة تكشف آليات الإقصاء داخل الدولة الأمنية وتعيد تعريف مفهومي "الولاء والخيانة" من منظور شخص عرف السلطة من الداخل ورفض أن يكون أداة قمع في نظام الأسد.

مسرحية الحوار الوطني

في يوليو 2011، أعلن النظام السابق عن تشكيل "هيئة الحوار الوطني" برئاسة فاروق الشرع، في محاولة لاحتواء الانتفاضة الشعبية المتصاعدة. تكشف شهادة الشرع في مذكراته عن محدودية هامش التحرك داخل النظام واحتكار بشار الأسد للقرار.

حاول الشرع خلال المشاورات التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني مناقشة قضايا جوهرية مثل إلغاء المادة الثامنة من الدستور، مؤكداً أن "كل الإصلاحات لا معنى لها بوجود المادة الثامنة"، ومعبراً عن قناعته بأن احتكار حزب البعث للحياة السياسية يفقد أي حوار مصداقيته. وأضاف أن "عدم مناقشة المادة الثامنة يعني استمرار احتكارنا للحياة السياسية، ويتناقض هذا الاحتكار مع تشكيل هيئة الحوار نفسها".

تظهر المذكرات أن الشرع كان يدرك أن ما يجري هو محاولة لاحتواء الغضب الشعبي دون تغيير حقيقي، قائلاً: "إننا في النظام وأنتم في المعارضة سنندم جميعاً في المستقبل إن لم نشارك لإنجاح الحوار الوطني".

لكن بشار الأسد رفض مناقشة المادة الثامنة وصلاحيات الرئيس، كما رفض نقل جلسات الحوار تلفزيونياً، مبرراً ذلك بوجود "خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها". ويكشف هذا عن رغبة واضحة في التحكم بمخرجات الحوار وعدم السماح بأي تحول سياسي حقيقي.

ويضيف الشرع أن الرئيس لم يكن مرتاحاً لفكرة النقل التلفزيوني المباشر، لكنه وافق بعد نقاش طويل على بث جلسة الافتتاح فقط. وقد انقطع البث بالفعل، ولم يتصور الناس أن الرئيس هو من أمر بقطع الإرسال التلفزيوني، لأنه وحده يملك صلاحية الأمر بذلك.

يعترف الشرع بأن اقتراحاته لجذب شخصيات معارضة مستقلة للحوار قوبلت بالتجاهل، قائلاً: "الرئيس هو مفتاح المدعوين من الخارج.. لكن لم يجر مع الأسف، أي مسعى لطمأنتهم".

في النهاية، تفككت "هيئة الحوار" وانتهت إلى مؤتمر شكلي لم يغير شيئاً، ليؤكد الشرع أن "ما قدم في هيئة الحوار من قوانين تخص الأحزاب والإعلام وغيرها، لم ينفذ منها شيء خلال السنوات الست المنصرمة"، مختتماً بالقول: "لم يجر حديث بيني وبين الرئيس أو القيادة عن مخرجات المؤتمر، لأنه كما يقول المثل السوري 'المكتوب يظهر من عنوانه'".

أرسل تجاهل توصيات الحوار الوطني وتجميد نتائجه، مع استمرار القمع العسكري، رسالة واضحة إلى الشرع وغيره من دعاة الحل السياسي داخل النظام، بأن بشار الأسد ماضٍ في الحل العسكري بدعم من قيادات أمنية وعسكرية.

يذكر الشرع أنه حاول مع بعض أعضاء القيادة القطرية تحذير بشار الأسد من خطورة المضي بالحل العسكري، لكن بشار امتعض من هذا الرأي قائلاً: "إن أسلوب الخارجية لم يعد مجدياً، وأنا من الآن فصاعداً سأقوم بالعمل من تحت الطاولة، لأن ذلك سيعطي نتائج أفضل".

ومع تصاعد الأوضاع، شعر الشرع أن كل صوت في النظام أصبح صامتاً أمام ما أسماها "القوة الخفية" التي تتحكم بكل الأمور خلف الكواليس: "هم يتصرفون بمقدرات الحزب الحاكم والدولة كأنهم ورثتها الحصريون".

في تلك اللحظة، أدرك الشرع أن "الحوار السوري ـ السوري جرى اغتياله، والحوار السوري ـ العربي أفشل، ولم يتبقَ سوى احتمال بعيد لحل دولي، ستكون الضحية فيه سوريا، بسبب تناقضات المصالح الدولية". وبالتالي قرر التوقف عن الذهاب إلى مكتبه والاعتزال في منزله، لأنه وجد "ألَّا آذان صاغية، ولا النصيحة باتت تجدي".

ورغم المحاولات لإقناعه بالعودة، فإن الشرع كان قد اتخذ قراره المصيري. ومن بين الذين زاروه (وكلهم لم يكونوا من الحكومة الخفية) اللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني، والدكتورة نجاح العطار نائبة الرئيس، إضافة إلى هيثم سطايحي عضو القيادة القطرية، الذي يظن الشرع أن زيارته كانت "بعد أن استشار رئيس الجمهورية، ولفهم ما أفكر به"، إلا أن الشرع رد على هذه الدعوات بالقول: "عندما يرتئي الرئيس إعادة عجلة الحوار السوري ـ السوري ويزودني أو يزود غيري بصلاحيات حقيقية لإنجاحه، فعندئذٍ فقط أكون موجوداً".

كان الشرع يعلم أن العودة في ظل هذه الظروف ستعني موافقة ضمنية على أفعال نظام سياسي لم يعد يثق فيه، نظام تسيطر عليه "السلطة الخفية" التي كانت تعارض وتعطل كل فرصة للحوار أو الحل السياسي. ولطالما تهكم الشرع على مقولة بشار الأسد الشهيرة بأن "الحل السياسي، سيكون موازياً للحل العسكري"، بالقول "في العلوم الخطان المتوازيان لا يلتقيان".

ويصف الشرع قرار اعتزاله العمل السياسي بالقول: "كان استمرار وجودي في الحكم لفترة أطول وغير محددة بحل سياسي واقعي سيعني موافقتي على هذا النهج المدمر للبشر والحجر"، ويستشهد بقول الإمام علي: "إذا سكت أهل الحق على الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق".

القيادة تعزل الشرع

في يوليو 2013، لم يكن مؤتمر حزب البعث سوى ستار لعملية تصفية سياسية داخلية، انتهت بإقصاء فاروق الشرع نهائياً من دائرة القرار. روى الشرع، الذي كان وقتئذ لا يزال نائباً للرئيس وعضواً في القيادة القطرية للحزب، كيف تم استدعاؤه إلى اجتماع مغلق عشية عقد المؤتمر، حضره محمد سعيد بخيتان الأمين القطري، وهيثم سطايحي، وأسامة عدي، واقترحوا على الشرع لقاءً فردياً مع الأسد تحت شعار "مصلحة الحزب".

رفض الشرع الفكرة وأدرك أن الأمر لا يتعدى محاولة استيعاب صوته المعارض للحل العسكري، فكما قال: "ألمح البعض إلى أن ما دار بيننا سيصل حتماً إلى مسامع الرئيس، وانصرفنا لأن مزيداً من النقاش لن يغير شيئاً".

في اليوم التالي، عقد المؤتمر داخل قصر الشعب، من دون انتخابات، ولا شفافية، ولا حتى حضور كامل لأعضاء اللجنة المركزية، بل جُلب أشخاص اختيروا من قبل الأسد وأجهزته الأمنية. وجه المتحدثون سيلاً من الانتقادات للقيادة الحزبية كلها ما عدا بشار الأسد، الذي بدا ساخراً من بخيتان الذي جلس على كرسي مخلخل، يعلو ويهبط، في مشهد وصفه الشرع بالقول: "لا يستطيع أحد وصف هذه الحالة بروحها الساخرة إلا الكاتب الروسي أنطون تشيخوف".

ثم أعلن الأسد من غرفة جانبية تشكيل قيادة جديدة (لم تضم أي اسم من القيادة القطرية السابقة) من دون تصويت، واستُبعد الشرع نهائياً، لا لأنه فشل حزبياً، بل لأنه "كان من وجهة نظر الرئيس العقائدية لا يؤيد الحل العسكري". بعد المؤتمر، أُغلق مكتب فاروق الشرع كنائب للرئيس، وتم تسريح جميع الموظفين، حتى عمال النظافة، وتم توزيع نسبة منهم في وزارات مختلفة، ووصلت تعليمات صارمة بمنع زيارة فاروق الشرع أو التواصل معه من قبل أي موظف في الدولة.

في نهاية مذكراته، يحمل الشرع الجهات الرسمية مسؤولية الشائعات التي دارت حول مصيره بالقول: "من غير الموثق في الصحف الرسمية متى تركت منصبي الأخير نائباً للرئيس، ولم توضح القيادة التي كنت عضواً فيها، فيما إذا كنت قد قدمت استقالتي من الحزب أو أُقلت منه. ولا يبدو أن معظم الناس يعرفون حقيقة الوضع الذي كنت فيه، فقد تُرك الأمر لتكهنات وسائل الإعلام العربية والأجنبية. فتارة تعتبرني منشقاً عن النظام، وتارة أخرى في إقامة جبرية أو خاضعاً لحماية دولة كبرى!"

ختاماً، يبدو واضحاً من خلال قراءة ما بين سطور هذه المذكرات أن الشرع لم يقصَ من المنصب فقط، بل من الحياة السياسية والاجتماعية برمتها، لقد تم نفيه داخلياً بصمت، لأنه قال: لا للقتل، فكانت نهايته نهاية رجل حاول أن يكون صوت العقل وسط هدير السلاح، فاختار النظام أن يصمت العقل ليعلو صوت المدفع عالياً.

تلفزيون سوريا

مشاركة المقال: