في قلب أسواق حلب القديمة، حيث تتداخل روائح البهارات والعطور الشرقية، ترسخت صناعة الصابون التقليدي كجزء لا يتجزأ من هوية المدينة على مر العقود. ولكن، وضعت سنوات الحرب هذه الحرفة أمام تحديات غير مسبوقة، بحسب تقرير لـ عنب بلدي.
تعود جذور صناعة الصابون الحلبي إلى قرون طويلة، كما ورد في دراسة بعنوان "Craftsmanship of Aleppo Ghar soap"، المقدمة إلى "اليونسكو"، والتي توثق هذه الحرفة التقليدية منذ العصور الوسطى. كانت حلب محطة تجارية رئيسة على طريق الحرير، مما ساهم في انتشار الصابون إلى أسواق أوروبا وآسيا، ليصبح رمزًا لصناعة متوارثة تحمل خبرة الأجيال.
وفقًا لموقع "Maison du Laurier"، حمل الصليبيون الصابون الحلبي معهم إلى أوروبا خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، مما أدى إلى تطور صناعة الصابون في مدن مثل مارسيليا الفرنسية وقشتالة الإسبانية. وعلى الرغم من انتشار تقنيات التصنيع الحديثة، حافظ الصابون الحلبي على مكانته كنموذج أصيل ألهم الصيغ الأوروبية اللاحقة.
صناعة متوارثة وطقوس ثابتة
في سوق "باب جنين"، يمثل محمد قضيماتي (35 عامًا) الجيل الحديث من الحرفيين الذين ورثوا صناعة الصابون عن آبائهم وأجدادهم. وأوضح قضيماتي لـ عنب بلدي أن صناعة صابون الغار تعتمد على زيت الزيتون وزيت الغار والماء ومواد طبيعية.
تبدأ عملية التصنيع بما يسمى "السلق الساخن" الذي يستمر ثلاثة أيام، ثم يضاف زيت الغار قبل أن يسكب الخليط على أرض مسطحة ليبرد. بعد ذلك، يُقطع ويُطبع بختم الصانع واسم المدينة، ويُترك في الأقبية بين ستة أشهر وسنة كاملة حتى يتحول لونه من الأخضر إلى الذهبي.
تعكس هذه العملية التقليدية مستوى المهارة والمعرفة المتوارثة التي تجمع بين مكونات طبيعية وخبرة متراكمة عبر أجيال، مما يجعل الصابون الحلبي علامة فريدة للمدينة وموروثًا ثقافيًا حيًا. وأشار قضيماتي إلى أن الحرفة ليست مجرد إنتاج تجاري، بل جزء من الذاكرة الجمعية للمدينة وروتين البيوت الحلبية، حيث تشتري العائلات كميات تكفيها لاستخدامها في "حمامات العيد" والاستخدامات اليومية، وفي "جهاز العروس"، وحتى كهدايا للمغتربين.
الحرب أوقفت الإنتاج
منذ عام 2012، تعرضت الصناعة لضربة قاسية حيث دمرت ورشات قديمة في أحياء حلب القديمة منها باب الحديد، وتوقفت أخرى عن العمل بسبب صعوبة تأمين المواد الخام أو نزوح أصحابها خارج البلاد. وأشار قضيماتي إلى أن الإنتاج توقف لسنوات، وأن ارتفاع أسعار زيت الزيتون وغياب اليد العاملة الماهرة جعل العودة إلى مستويات ما قبل الحرب صعبة للغاية. ورغم استئناف بعض الورشات نشاطها بعد 2017، بقي الإنتاج محدودًا.
تحديات عصر جديد
في حي الكلاسة، أوضح البائع أحمد ططري (60 عامًا)، لـ عنب بلدي، أن تغير أذواق المستهلكين شكّل تحديًا إضافيًا أمام استمرار الصابون التقليدي. جيل الشباب بات يفضل منتجات الشامبو والصابون الصناعي ذات الألوان الزاهية والروائح القوية، بينما يفتقر الصابون الحلبي إلى أساليب تسويق حديثة تجذب هذه الفئة.
وأضاف ططري أن ارتفاع تكاليف الإنتاج انعكس على الأسعار النهائية، ما جعل الصابون التقليدي خارج متناول شريحة واسعة من العائلات، خاصة مع تراجع القدرة الشرائية في المدينة. وأكد تعرض عشرات "المصابن" (المصانع التقليدية) للدمار خلال سنوات الحرب، خاصة في أحياء الكلاسة والمرجة، وهي مناطق كانت تعد مراكز رئيسة لإنتاج الصابون. كما أن خسارة الأسواق الخارجية وارتفاع تكاليف الإنتاج، خاصة أسعار الزيوت الطبيعية، أسهمت في تراجع الإنتاج.
وبحسب ططري، فإنه في السنوات الأخيرة، برزت شركات حديثة تعبئ صابون الغار في عبوات فاخرة وتصدره تحت مسميات تجارية مختلفة، ما جعل المنتج التقليدي يفقد مكانته في الأسواق. كما أن بعض الشركات تستخدم زيوتًا أرخص أو مواد كيماوية، مما أثار مخاوف بشأن تشويه هوية الصابون الأصلي. ولفت إلى غياب الدعم الحكومي وخطط التسويق المحلية والخارجية، التي يمكن أن تساعد الصناعة على الصمود.
هوية المدينة
ظل الصابون جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية للحلبيين، حيث ارتبطت رائحته بالنظافة في البيوت، ويُستخدم في المناسبات الكبرى والحمامات العامة. وفي ذاكرة المغتربين، أصبح الصابون رفيق الحنين، كتذكار يحمل عبق المدينة إلى المنازل في دول المهجر واللجوء.
في عام 2024، أدرجت "اليونسكو" صناعة الصابون الحلبي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، لكن الصناعيين يرون أن الاعتراف الدولي بحاجة إلى خطوات عملية، مثل دعم الورشات الصغيرة وتدريب جيل جديد على أسرار المهنة، لضمان استمرار هذه الحرفة التي تمثل جزءًا أساسيًا من هوية حلب وذاكرتها.