الأربعاء, 10 سبتمبر 2025 01:48 AM

من الخيمياء إلى الواقع: كيف تحولت الهند إلى صانعة ذهب العصر الرقمي؟

من الخيمياء إلى الواقع: كيف تحولت الهند إلى صانعة ذهب العصر الرقمي؟

أضواء على التجربة الهندية

دمشق – عبد الحميد القتلان

لطالما سعت البشرية عبر العصور، بالعلوم والشعوذة، إلى خلق الثروة من العدم. ورغم أن علماء العصر الحديث اعتبروا تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب أمراً مستحيلاً أو مكلفاً للغاية، إلا أن تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ودخولها إلى المجال المالي عبر الدفع والنقد الإلكتروني، غيّر هذا المفهوم. العملة أصبحت سلعة تخضع للعرض والطلب، وأصبح الحلم ممكناً.

العديد من الدول أتقنت اليوم "سيمياء الأموال"، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تطبع عملتها بدون غطاء ذهبي منذ نصف قرن. فتلك المئة دولار لا تكلف سوى 12.5 سنتاً لطباعتها! لكن الجديد هو دخول دول أخرى إلى هذا "النادي"، من خلال فهمها للعبة المال. التجربة الهندية، بقيادة رئيس وزرائها ناريندا مودي، تعتبر الأحدث والأكثر جرأة.

*أضواء على التجربة الهندية:

في 8 تشرين الثاني 2016، أعلنت الحكومة الهندية إلغاء ورقتي 500 روبية (حوالي 7.4 دولار) و 1000 روبية (15 دولار)، اللتين تشكلان 86% من المعروض النقدي المتداول. كان على حاملي هذه الأوراق تسليمها إلى البنوك لفتح حسابات إلكترونية والحصول على بطاقات دفع إلكتروني. تسبب حجم الأوراق الهائل وعدد المتعاملين الكبير باختناقات في المصارف، واضطر المواطنون للوقوف في طوابير طويلة لتسليم أوراقهم قبل نهاية كانون الأول من العام نفسه.

مزايا إلغاء التوريق (Demonetization):

كانت هذه العملية حلاً سحرياً لمشاكل مستعصية تعيق التنمية، مثل اقتصاد الظل. لم يعد بإمكان التجار والمتنفذين المضاربة في أسواق العملات السوداء، وأصبحت عمليات تمويل الفساد أصعب، وانخفضت معدلات التهريب والاتجار بالبشر والتهرب الضريبي بشكل كبير. كما ارتفعت قدرة البنوك على الإقراض نتيجة استحواذها على الأموال التي كانت خارج الدائرة المالية، والأهم من ذلك، ازدادت عائدات الحكومة مباشرة، حيث أصبح يتعين على كل مودع إيضاح مصدر الأموال، وإلا سيغرم بدفع ضعف قيمة أعلى نسبة ضريبة. وأصبح لدى الحكومة الهندية إمكانية ضخ أموال جديدة عبر مشاريع استثمارية دون التسبب بالتضخم، مما أدى إلى ازدياد معدل النمو وانخفاض البطالة.

مساوئ إلغاء التوريق (Demonetization):

لم تخلُ هذه الخطوة من الألم. فقد تسبب الانخفاض المفاجئ في المعروض النقدي بانكماش جزئي في الاقتصاد، حيث انخفض معدل نمو GDP بمقدار نصف بالمئة إلى ما دون 7%، وانخفض استهلاك السلع المنزلية نتيجة عدم توفر السيولة، بسبب تقييد الحكومة الهندية لكمية الإنفاق من الأموال المودعة. إضافة إلى ذلك، أدت هذه الخطوة إلى انخفاض قيمة الروبية مقابل الدولار وارتفاع واردات الذهب، حيث لجأ المتعاملون إلى شراء الذهب والدولار اللذين ارتفعت أسعارهما.

*كيف يمكن إلغاء التوريق؟

نجاح هذه الخطوة في الهند يعود إلى جهود مضنية استمرت سنوات لتنمية القطاع البنكي والخدمات البنكية، وتطوير البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وقوانين وتشريعات الدفع والتجارة الإلكترونية، ودعم العمليات المالية الإلكترونية في مختلف القطاعات.

لقد أضحى توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التنمية دعامة رئيسية لتحقيق خطط التنمية ومراقبة نشاطها.

إن تطوير المجتمع الاقتصادي ليستغني عن الأموال الفيزيائية (Cashless society) لم يعد ترفاً، بل ضرورة ملحة لحل مشكلات المجتمع مثل مكافحة الفساد والمضاربة والتهرب الضريبي، وتوفير العائدات للتنمية، وإمكانية مراقبة النشاط الاقتصادي بشكل آني، مما يتيح إمكانية الدعم والرعاية الاقتصادية في الوقت المناسب.

في النهاية، أي تغيير إيجابي لا بد أن يصاحبه تحديات وشكوك ومعارضين. هذه الخطوة في الهند تعرضت للكثير من الانتقاد والجدل، ولكن لو استمع كل مسؤول إلى معارضيه أو خشي أن يخطأ، لما استطاع أحد أن يخطو خطوة إلى الأمام.

مشاركة المقال: