الأحد, 21 سبتمبر 2025 06:09 PM

إعادة إعمار سوريا: تحديات اقتصادية وسياسية وحلول ممكنة

إعادة إعمار سوريا: تحديات اقتصادية وسياسية وحلول ممكنة

موفق الخوجة | وسيم العدوي | كريستينا الشماس | لبابة الطويل. ينتظر السوريون بفارغ الصبر إعادة بناء مدنهم وقراهم التي دمرتها 14 عامًا من الحرب. ومع ذلك، يبدو الواقع أكثر تعقيدًا بسبب العقبات الاقتصادية والسياسية والأمنية.

تعاني سوريا، التي خرجت مؤخرًا من الحرب وتسعى جاهدة لتحقيق الاستقرار الذي تعرقله العمليات العسكرية في الساحل والجنوب، من وضع اقتصادي مزر على المستويين الفردي والحكومي. يعيش المواطن السوري في ظل الحد الأدنى من مقومات الحياة، بينما خزينة الدولة فارغة وتعتمد على التبرعات المحلية أو الإعانات الدولية، دون اللجوء إلى الاقتراض.

في ظل الشروط الدولية الصعبة والبعيدة المنال، تحاول الحكومة السورية استبدال المنح بصناديق تبرعات محلية، لكنها لا تغطي سوى جزء صغير من التكلفة الهائلة لإعادة الإعمار. في المقابل، تشهد سوريا انفتاحًا على مشاريع من دول إقليمية وعربية، مما يشير إلى تحسن وشيك في الاقتصاد السوري في السنوات القليلة المقبلة، وبالتالي تقدم في ملف إعادة بناء المدن المدمرة.

في هذا الملف، تستكشف عنب بلدي التحديات والعقبات التي تواجه مسار إعادة إعمار سوريا، وتناقش الحلول الممكنة مع الباحثين والخبراء الاقتصاديين، وتستعرض الجهود المحلية والدولية لدعم عودة الحياة إلى المدن المدمرة.

عودة المهجرين.. حلم مؤجل

نزحت جاهدة قرطومة (65 عامًا) من منطقة جوبر في ريف دمشق بسبب القصف المستمر الذي دمر منازل المنطقة وأجبر السكان على النزوح. منذ ذلك الحين، تعيش جاهدة على الإعانات المقدمة من منظمات المجتمع المدني وتتنقل بين المنازل المستأجرة في ظروف معيشية صعبة.

تروي جاهدة لعنب بلدي بحسرة أن جارًا لها أتى إليها بعد سقوط النظام بتسجيل مصور لحي مدمر بالكامل، وسألها عما إذا كانت تتعرف على المكان. أجابت بدهشة: "وكيف لي أن أعرف؟ النظام السابق لم يترك شيئًا قائمًا في سوريا." لكن صدمتها كانت عندما أخبرها أن منزلها في جوبر موجود داخل التسجيل. لم تتمالك جاهدة دموعها وهي تشاهد المشهد، إذ لم تتعرف على بيتها الذي احتضن عائلتها لسنوات، ووصفت اللحظة بأنها أعادت إليها "شريط حياة كاملًا"، عندما كانت تعيش بأمان بين جدرانه، قبل أن تحوله غارات النظام السابق إلى ركام.

لا تخفي جاهدة شعورها بالعجز وفقدان الأمل، مؤكدة أنها لم تعد ترى إمكانية للعودة إلى جوبر، بعدما تحول إلى منطقة "ممسوحة" بفعل القصف الممنهج، وبقي بالنسبة لها مجرد ذكرى محمّلة بالحنين والخسارة.

يتشارك رائد طعمة (45 عامًا) معاناة جاهدة، ويروي كيف شاهد منزله في بلدة حزة بالغوطة الشرقية يتعرض للقصف الجوي، قبل أن يضطر للنزوح مع عائلته إلى محافظة إدلب عام 2018، تاركًا خلفه بيتًا متضررًا بشكل كبير. شارك رائد عنب بلدي لحظة الغارة التي استهدفت منزله، واصفًا عجزه حينها عن فعل أي شيء سوى محاولة إخراج أسرته إلى مكان آمن، مضيفًا أن شعوره بالانكسار رافقه طوال سنوات التهجير.

بعد سقوط النظام، قرر رائد العودة إلى بلدته، لكن فرحته بالعودة اصطدمت بالواقع، إذ وجد منزله غير صالح للسكن ويحتاج، بحسب تقديره، إلى ما يزيد على 5000 دولار لإعادة ترميمه وتأهيله، وهو مبلغ لا يستطيع توفيره. قال رائد إنه لم يتلقَ أي تواصل من جهات حكومية لتقديم دعم في إعادة الإعمار، والجهة الوحيدة التي رآها على الأرض هي منظمة الهلال الأحمر السوري، التي قدمت معونات محدودة تمثلت ببعض الأغطية والفرش.

بينما هُجّر أحمد الطاير (52 عامًا) من مدينة حرستا بريف دمشق قبل ثماني سنوات، متجهًا مع عائلته إلى ريف حلب هربًا من القصف، وبعد سقوط النظام، قرر العودة لتفقد منزله، ليجد أن البناء الذي كان يقطن فيه قد تهدّم بالكامل، ولم يعد صالحًا للسكن. قال أحمد إنه لم يتمكن من العودة للاستقرار في حرستا مع عائلته، فتكلفة إعادة ترميم المنزل تفوق قدرته المادية، فضلًا عن أن الإيجارات في ريف دمشق باتت مضاعفة مقارنة بما يدفعه حاليًا في ريف حلب، الأمر الذي يجعل العودة خيارًا شبه مستحيل بالنسبة له.

وأضاف أحمد أن غياب الخدمات الأساسية في حرستا، من كهرباء ومياه وخدمات أخرى، يجعله أكثر ترددًا في التفكير بالعودة، مشيرًا إلى أن وضعه يشبه حال العشرات من المهجرين الذين يعتبرون أن عودتهم إلى منازلهم "مجرد حلم بعيد المنال". وصف أحمد حاله وحال أمثاله بأنهم "منسيون" من قبل الحكومة، معتبرًا أن أول استثمار حقيقي يجب أن تعمل عليه السلطات السورية هو إعادة المهجرين إلى منازلهم، وتأمين بيئة تتيح لهم استعادة حياتهم الطبيعية.

الدفاع المدني السوري يزيل الأنقاض في الغوطة الشرقية بريف دمشق – 16 نيسان 2025 (الدفاع المدني/ تلجرام)

تكلفة باهظة ومسار طويل..

عوائق اقتصادية وسياسية

تغيب الإحصائيات الدقيقة لتكلفة إعادة الإعمار في سوريا، نتيجة الدمار الواسع الذي لحق بسوريا، منذ عام 2011 وحتى انتهاء العمليات العسكرية في 8 من كانون الأول 2024، إلا أن أبرز الأرقام تتحدث عن تكلفة تتراوح 250 و400 مليار دولار، بحسب تقديرات للبنك الدولي، ومركز "كارنيجي لدراسات الشرق الأوسط"، بينما تذهب تقديرات أخرى لتتجاوز 800 مليار دولار.

ووفقًا لتقديرات البنك الدولي في تقريره لعام 2021، قد تصل تكلفة إعادة الإعمار في سوريا إلى حوالي 400 مليار دولار أمريكي، وقد تزيد هذه التكلفة في حال تزايد الأضرار أو تعثر عملية الانتقال السياسي. ويشير التقرير إلى أن هذا الرقم يشمل إصلاح البنية التحتية الأساسية، مثل الطرق والمرافق الصحية والكهرباء والتعليم، وإعادة بناء القطاع الخاص وزيادة الاستثمارات.

من جهة أخرى، قدّرت الأمم المتحدة، عام 2023، تكاليف إعادة الإعمار بأنها قد تصل إلى 180 مليار دولار، وتشمل تأهيل المدن وإعادة بناء المنازل المدمرة وإصلاح المنشآت الحيوية. ووفق دراسة لمركز "كارنيجي" صدرت عام 2019، لا تستطيع الحكومة السورية تحمل نفقات إعادة إعمار سوريا، إذ تتجاوز تكلفتها الميزانية بأضعاف. يضاف إلى ذلك الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد، إذ يحتاج أكثر من 16 مليون سوري داخل البلاد إلى مساعدات، كما أن نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.

وبينما تشير التوقعات بأن تمتد العملية على مدى 15 إلى 20 سنة في حال سارت بالوتيرة التقليدية، لا يزال الاقتصاد السوري يسير في حالة عدم الاستقرار التي تشهدها المنطقة، بحسب تقرير للبنك الدولي، نشره في تموز الماضي.

مؤشرات لتحسن محدود

تقرير البنك الدولي توقع أن ينمو إجمالي الناتج المحلي في سوريا نموًا متواضعًا بنسبة 1% في عام 2025، بعد انكماشه بنسبة 1.5% في عام 2024، وذلك في ظل استمرار التحديات الأمنية، ونقص السيولة، وتعليق المساعدات الخارجية. وفيما يتيح تخفيف العقوبات بعض الإمكانيات الإيجابية للنمو، فإن التحسن يبقى محدودًا، إذ إن تجميد الأصول الخارجية وتقييد الوصول إلى الخدمات المصرفية الدولية لا يزالان يعوقان إمدادات الطاقة، والمساعدات الخارجية، والدعم الإنساني، فضلًا عن أنشطة التجارة والاستثمار.

وبحسب تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، في كانون الثاني الماضي، يمكن أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي لسوريا بمعدل 13% سنويا بين عامي 2024 و2030. ومع ذلك، فإن هذا النمو لن يرفع الناتج الإجمالي للبلاد سوى إلى 80% من مستواه قبل الحرب بحلول نهاية العقد، في حين سيصل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى نصف مستوى عام 2010.

وبحسب خبراء الأمم المتحدة، فإن استعادة الناتج المحلي الإجمالي الكامل لما قبل الحرب ستتطلب ست سنوات إضافية من نمو ثابت بنسبة 5%، بما يدفع الإطار الزمني إلى عام 2036. ويصنف التقرير سوريا في المرتبة 158 من أصل 160 دولة في دليل "إسكوا" لتحديات التنمية في العالم لعام 2024، مشيرًا إلى مشكلات متجذرة في الحوكمة، والتدهور البيئي، وانتشار الفقر بشكل واسع.

العوائق السياسية والقانونية

من جانبه، تحدث الباحث الاقتصادي محمد السلوم، لعنب بلدي، أن دخول استثمارات خليجية وتركية وأوروبية، ورفع جزء مهم من العقوبات، قد يقلّص المدة إلى أقل من عقد ونصف. وأشار السلوم إلى أن العوامل المؤثرة في الجدول الزمني متعددة، منها حجم الدمار وقدرة المؤسسات التنفيذية وتوفر التمويل، وأخيرًا كفاءة الإدارة.

وقال الباحث الاقتصادي، إنه رغم التحسن في البيئة الدولية، لا تزال بعض العقبات قائمة، فالقانون رقم "10" لعام 2018، الذي يمنح الدولة صلاحيات واسعة في إعادة تنظيم الملكيات العقارية، لم يُلغَ رسميًا بعد، ما يثير مخاوف السوريين والمستثمرين بشأن حقوق الملكية. ورغم رفع الاتحاد الأوروبي جانبًا كبيرًا من العقوبات، فإن اشتراطات المانحين لا تزال حاضرة، خصوصًا فيما يتعلق بالشفافية ومكافحة الفساد، بحسب السلوم.

وتشير تقارير الأمم المتحدة و"IMF" إلى أن الفساد وضعف المؤسسات يشكلان أكبر تهديد لنجاح عملية إعادة الإعمار، إذ يعرقلان الإصلاحات ويفقدان الثقة بالقطاع العام. لذلك، تركز الحكومة السورية في خططها الحالية على إعادة هيكلة المؤسسات الرقابية والقضائية، ووضع آليات تضمن النزاهة في عقود الإعمار، وفقًا لسلوم.

من جانبه، حدد مركز "كارنيجي للشرق الأوسط" ثلاث ركائز لضمان نجاح عملية إعادة الإعمار والتعافي الوطني على نحو مستدام. تتمثل الركيزة الأولى في تحقيق انتقال سياسي شامل للجميع، يتيح مشاركة مختلف قطاعات المجتمع في الحكم. وتتعلق الركيزة الثانية في إرساء ثقل موازن لمن هم في السلطة يعزز الانتقال الديمقراطي في المشهد السياسي السوري. الركيزة الثالثة ترتبط بتحسين الظروف الاجتماعية الاقتصادية من أجل زيادة الانخراط من القاعدة، ولا سيما في أوساط الفئات السكانية الأكثر احتياجًا التي تواجه ظروفًا معيشية صعبة.

وبحسب "كارنيجي" ستبقى عملية تعافي الاقتصاد السوري معرّضة للخطر، ما لم تتوفر هذه الشروط، وسيزداد احتمال انعدام الاستقرار وسط استبعاد قوى سياسية واجتماعية مختلفة. ومنذ سقوط النظام السابق، تشكل شبه إجماع من قبل المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول الخليج على عدد من الشروط لأي عملية إعادة إعمار فعالة في سوريا، أبرزها:

  • أن تكون إعادة الإعمار بقيادة سورية يخططها وينفذها السوريون أنفسهم.
  • أن تكون شاملة لجميع مكوّنات المجتمع، بمن في ذلك الأقليات الدينية والعرقية، والنساء، ومنظمات المجتمع المدني.
  • أن تتسم بالشفافية والمساءلة، وتُدرج الإصلاحات وحقوق الإنسان والعدالة ضمن إطارها.
  • أن يتم تخفيف العقوبات لفتح المجال أمام التمويل والمساعدات، مع الإبقاء على العقوبات المتعلقة بالأمن والجرائم الخطيرة.

مؤشرات إيجابية

بالمقابل، يرى الباحث الاقتصادي محمد السلوم أن المؤشرات الإيجابية كثيرة، منها:

  • رفع قسم مهم من العقوبات الأوروبية.
  • بدء استثمارات فعلية من الخليج وتركيا والأردن.
  • انفتاح سياسي واقتصادي مع فرنسا وألمانيا.
  • برامج حكومية موجهة للشفافية ومحاربة الفساد.

إعادة إعمار سوريا ليست مجرد ورشة بناء، بل مشروع لإعادة صياغة العقد الاجتماعي وترميم الثقة بين الدولة والمجتمع، وإذا ما نجحت الحكومة في القضاء على الفساد وتفعيل شراكاتها الدولية، فإن حلم إعادة الإعمار قد يتحول من مسار طويل لعقود إلى إنجاز تاريخي في عقد واحد.

محمد السلوم

باحث اقتصادي

مديرية الخدمات الفنية تبدأ العمل على توسعة وإعادة تهيئة الطريق الواصل من مدينة حرستا إلى مدينة دوما – 17 أيار 2025 (ريف دمشق/تلجرام)

مبادرات محلية تدفع الإعمار

تسير السياسة الاقتصادية في سوريا إلى رفض الاستدانة الخارجية، والاتجاه نحو صناديق الدعم المحلي. ومن حمص إلى درعا ودير الزور وصولًا إلى العاصمة وريفها، تتوالى الحملات المحلية لجمع التبرعات تحت عناوين متعددة، في محاولة لإعادة الحياة للمرافق الأساسية التي دمرتها سنوات الحرب في سوريا. خلال أسابيع قليلة، تجاوزت التبرعات المُعلنة 70 مليون دولار، ورغم أن الأرقام تبدو ضخمة في سياق الموارد المحلية، فإنها تطرح في الوقت ذاته أسئلة كبيرة حول حجم الاحتياجات الفعلية وآليات توظيف هذه الأموال.

“أربعاء حمص”

في 13 من آب الماضي، أقيم في محافظة حمص مؤتمر “أربعاء حمص” بتنظيم مشترك بين المحافظة ووزارة الثقافة وفريق “ملهم التطوعي”. المؤتمر استهدف عرض مشاريع تنموية قابلة للتمويل، ونجح بجمع 13 مليون دولار، وفق ما أعلنه فريق “ملهم” عبر صفحته على “فيسبوك”. وخصصت بعض المشاريع لمناطق معينة مثل إعادة تأهيل مستشفى “تدمر”، وفق رغبة المتبرعين.

“أبشري حوران”

في 25 من آب، انطلقت حملة “أبشري حوران” في محافظة درعا. الهدف المبدئي كان جمع 32 مليونًا و740 ألف دولار لإعادة تأهيل قطاعات التعليم والصحة والمياه. بالمقابل، شهد اليوم الأول وحده تبرعات فاقت التوقعات، إذ وصل الرقم إلى 37 مليون دولار، وفق ما نشرته وكالة الأنباء السورية (سانا). وبعد أقل من أسبوعين، أعلن عن اختتام الحملة بمجموع تجاوز 44 مليون دولار، أي بزيادة قدرها أكثر من 11 مليونًا على الهدف الأساسي.

نائب رئيس المكتب التنفيذي لمجلس المحافظة، مهند الجهماني، قدّم تقريرًا ماليًا يوضح آلية توزيع التبرعات على المشاريع ذات الأولوية، بينما أكد محافظ درعا، أنور الزعبي، أن التنفيذ بدأ مباشرة بعد انتهاء الحملة. وفي الوقت نفسه، صرّح بأن إعادة إعمار المحافظة بالكامل تحتاج إلى نحو 60 مليار دولار، وهو ما يعكس الفجوة الهائلة بين الأموال المتاحة والاحتياجات الفعلية.

“صندوق التنمية”

أُطلق “صندوق التنمية السوري” في 4 من أيلول الحالي، بحضور الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، الذي أكد أن الصندوق يمثل بداية مرحلة جديدة من البناء والإعمار بعد سنوات من الدمار والتشتت الذي عانى منه السوريون. حتى الآن، تجاوزت قيمة التبرعات للصندوق 82 مليون دولار أمريكي، ويعول القائمون عليه على دعم أوسع من السوريين والمغتربين والشركات الخاصة لتمويل ما وُصف بأنه “المؤسسة الوطنية الجامعة لإعادة الإعمار”.

المدير العام للصندوق، محمد صفوت رسلان، قال خلال حفل الإطلاق، إن المؤسسة ستكون “بوصلة لإعادة الإعمار”، معتبرًا أنها “رؤية شاملة” تهدف إلى توحيد جهود الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص وأبناء سوريا في الداخل والخارج. ستعتمد المصادر المالية للصندوق على التبرعات الفردية من داخل سوريا وخارجها، إلى جانب برنامج “المتبرع الدائم” الذي يتيح اشتراكات شهرية ثابتة، فضلًا عن الإعلانات والهبات والتبرعات التي تُقبل وفق القوانين والأنظمة النافذة.

“دير العز”

في 11 من أيلول، انطلقت حملة “دير العز” بمحافظة دير الزور، لتشهد بدورها تفاعلًا سريعًا. الهدف المبدئي كان جمع أكثر من 25 مليون دولار، لكن الساعات الأولى فقط سجّلت تبرعات تجاوزت 26 مليون دولار، بحسب ما صرّح به مدير الحملة، مصعب الحنت، لعنب بلدي. كما برز دور المغتربين الذين أسهموا عبر تحويلات مباشرة، ما دفع مدير الحملة للحديث عن إمكانية ارتفاع الأرقام مستقبلًا.

“ريفنا بيستاهل”

بدورها، أطلقت محافظة ريف دمشق حملة “ريفنا بيستاهل” في 20 من أيلول، وهي أحدث الحملات حتى لحظة تحرير الملف، وتجاوزت التبرعات خلال الساعات الأولى لإطلاق الحملة 76 مليون دولار. وتهدف “ريفنا بيستاهل” إلى دعم إعادة تأهيل المناطق الريفية التي تعرضت لدمار شبه كامل خلال سنوات الحرب، مثل الغوطة الشرقية وداريا ومضايا والزبداني وجوبر.

الحملة تمثل امتدادًا للمبادرات السابقة مثل “أبشري حوران” و”دير العز”، لكنها تواجه تحديات أكبر بسبب حجم الدمار والموارد المحدودة. تركز الحملة على مشاريع أساسية تشمل ترميم المباني السكنية، وتعبيد الطرق، وتأهيل شبكات المياه والكهرباء، وتجهيز المستشفيات والمرافق الحكومية. المتحدث باسم الحملة، براء عبد الرحمن، أوضح لعنب بلدي، أن جهود الحملة ستتم بالتنسيق مع المجتمع المحلي والمجالس المحلية في ريف دمشق، وبإشراف المحافظة وصندوق التنمية السوري، بهدف تحسين الظروف المعيشية للسكان واستعادة البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية.

صعوبات أمام هذه الحملات

في تقييمه للتحديات الاقتصادية، أوضح الخبير الاقتصادي عبد الرحمن محمد أن الحملات تواجه صعوبات كبيرة، أبرزها نقص التمويل مقارنة بتكلفة إعادة الإعمار الضخمة، إضافة إلى العقوبات المفروضة على سوريا التي تحد من وصول الاستثمارات الأجنبية. كما أشار إلى أن حجم الدمار في البنية التحتية يتطلب إعادة بناء شاملة للطرق والكهرباء والمياه، ما يزيد من تعقيد التنفيذ.

تتضمن التحديات الأخرى صعوبات لوجستية في الوصول إلى بعض المناطق، وغياب خطط اقتصادية طويلة الأمد لتحويلها إلى مراكز منتجة، بالإضافة للحاجة إلى تنسيق فعّال بين الجهات الحكومية والمنظمات والمجتمعات المحلية لتجنب تداخل الجهود وإهدار الموارد. رغم هذه التحديات، يرى محمد أن الحملات يمكن أن توفر دعمًا ملموسًا للقطاعات الأساسية إذا جرت إدارة التمويل والمشاريع بآليات شفافة للمتابعة والمساءلة، مع التأكيد على أن أثرها سيكون محدودًا مقارنة بالحاجة الإجمالية لإعادة الإعمار الكامل في الريف.

حدود المبادرات وآفاقها

بحساب ما جُمع في تلك المبادرات، فإن مجموع التبرعات يبلغ نحو 230 مليون دولار خلال أسابيع قليلة. بالمقابل، عند مقارنته بالتقديرات الرسمية لحجم الدمار، مثل 60 مليار دولار لإعمار درعا وحدها، يظهر الفارق الكبير بين الإمكانيات والاحتياجات. هذه المبادرات تعكس قدرة المجتمع على الحشد، كما تبرز دور رجال الأعمال والمغتربين والمنظمات المحلية والدولية في توفير دعم عاجل لبعض القطاعات. لكنها في الوقت ذاته تكشف محدودية الأثر مقارنة بالبنى التحتية الكبرى التي تحتاج إلى تمويلات بمليارات الدولارات.

وأشار الخبير الاقتصادي عبد الرحمن محمد، في حديثه إلى عنب بلدي، إلى أن هذه التبرعات تمثل مؤشرًا على حيوية المجتمع المحلي، وقدرته على التحرك في ظل غياب موارد كبيرة. لكنه أكد أن الأثر يبقى محدودًا، إذ لا يمكن لمبالغ كهذه أن تغطي سوى مشاريع خدمية صغيرة أو متوسطة، مثل ترميم المدارس أو تجهيز المراكز الصحية. وأوضح أن التحدي الأكبر يكمن في ضمان الشفافية ومتابعة التنفيذ بدقة.

وحول دور هذه المبادرات، أكد محمد أن نجاح الحملات لا يُقاس فقط بالأرقام، بل بمدى القدرة على تحويل التبرعات إلى مشاريع قابلة للتنفيذ، مع وجود آليات شفافة للمتابعة والمساءلة.

عمال عمال ينفذون عمليات ترميم مدرسة “العنكاوي” في قرية الحويجة بريف حماة – آب 2025 (عنب بلدي/ إياد عبد الجواد)

دعم دولي محدود..

انفتاح على الاستثمار

قدمت دول عربية وأوروبية، بالإضافة إلى منظمات دولية وغير حكومية، إعانات لدعم مسيرة إعادة الإعمار، إلا أن هذه الإعانات تبقى محدودة الأثر، وسط احتياجات كبيرة، واقتصاد متردٍ.

البداية من أوروبا

بهدف دعم جهود التعافي الاجتماعي والاقتصادي في سوريا، أعلن الاتحاد الأوروبي، في حزيران الماضي، عن تخصيص 175 مليون يورو لتمويل مشاريع تنموية تشمل قطاعات الطاقة والتعليم والصحة والزراعة وتحسين سبل العيش. ويندرج هذا الدعم ضمن التزام الدول الأوروبية إلى جانب عدد من الدول المانحة الذي سبق الإفصاح عنه في آذار 2025، خلال مؤتمر “الوقوف مع سوريا: تلبية الاحتياجات من أجل عملية انتقال ناجحة”، بتقديم ما يقارب 5.8 مليار يورو لدعم سوريا والمجتمعات المضيفة للاجئين.

تخفيف العقوبات

في خطوة اعتُبرت تحولًا لافتًا في السياسة الأوروبية تجاه سوريا، قرر الاتحاد الأوروبي، في شباط الماضي، تعليق بعض العقوبات الاقتصادية المفروضة على قطاعات رئيسة كالطاقة والنقل والقطاع المصرفي، بهدف تسهيل إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. ثم أكد الاتحاد الأوروبي عبر بيان رسمي رفعًا جزئيًا للعقوبات مع الإبقاء على القيود المفروضة على شخصيات وكيانات مرتبطة بالنظام السابق، وذلك في إطار دعم مسار العدالة والمحاسبة. وبالتوازي، أصدر البرلمان الأوروبي قرارًا دعا بموجبه إلى استخدام الأصول المجمدة للنظام السابق لتمويل مشاريع إعادة الإعمار وتعويض الضحايا.

موقف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية

من جهتها، أكدت الأمم المتحدة، عبر مبعوثها الخاص السابق غير بيدرسون (استقال مؤخرًا)، أن التحول السياسي الشامل هو شرط أساسي لنجاح إعادة الإعمار وتحقيق السلام. ووفقًا لتقرير أممي حديث، في أيار الماضي، عاد أكثر من 1.5 مليون لاجئ ونازح سوري إلى مناطقهم، منذ سقوط النظام السابق، فيما دعت الأمم المتحدة إلى تعبئة الموارد الدولية لدعم جهود إعادة البناء. وفي نيسان الماضي، أعلنت كل من السعودية وقطر عن تسديدهما الديون المستحقة على سوريا للبنك الدولي والبالغة نحو 15 مليون دولار، ما أعاد تأهيل سوريا للحصول على تمويلات مستقبلية لدعم جهود إعادة الإعمار من مؤسسات التنمية الدولية.

تسوية ديون سوريا مهّدت الطريق لموافقة البنك الدولي، في حزيران الماضي، على منحة بقيمة 146 مليون دولار لتمويل مشروع استعجالي لإصلاح قطاع الكهرباء في سوريا، تحت اسم “Syria Electricity Emergency Project – SEEP”، ويشمل المشروع تأهيل البنية التحتية المتضررة وتقديم الدعم الفني للمؤسسات الوطنية.

بين الصورة النمطية والرؤية الواقعية

خالد التركاوي باحث في الاقتصاد الدولي يوجد تصوّر سطحي وسائد لدى كثير من الناس حول مفهوم إعادة الإعمار في سوريا، يتمثل في أن شركات كبرى ستدخل البلاد، وتبدأ بجرف المناطق المدمرة وبناء ناطحات سحاب ومشاريع ضخمة، مع إعادة تأهيل شاملة للبنى التحتية. هذه الصورة غير واقعية، ولم تحدث بهذا الشكل في أي دولة عانت من دمار شامل.

التجارب السابقة، مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، أظهرت أن البداية الفعلية لإعادة الإعمار لم تكن من المنازل أو الأبنية، بل من المصانع المدمرة، فقد بدأت ألمانيا بإصلاح منشآتها الإنتاجية تدريجيًا، ما أسهم في تشغيل اليد العاملة، بمن فيهم الجنود المسرّحون، وسرعان ما أدى ذلك إلى زيادة وتيرة الإنتاج ثم التوسع في ترميم البيوت والمناطق السكنية. تلقت ألمانيا حينها دعمًا ماليًا خارجيًا عبر خطة “مارشال”، وكان المبلغ الذي حصلت عليه ليس ضخمًا بمقاييس اليوم، لكنه مثّل دفعة مهمة ومؤثرة في تلك المرحلة الزمنية.

وفيما يتعلق بدول الجوار، فإن دولًا مثل تركيا والعراق ولبنان لها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في إعادة إعمار سوريا، ليس فقط لأسباب اقتصادية، بل أيضًا بسبب الحاجة إلى إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وترى هذه الدول أن الإعمار يبدأ من خلال صيانة البنى التحتية الأساسية، وترميم المساكن، بما يهيّئ الظروف الملائمة لعودة السكان. هذه الدول تنظر إلى العملية من منظور شراكات تجارية مستقبلية، حيث يُعاد اللاجئون، ثم يدخل التجار ورجال الأعمال من دول الجوار للاستفادة من السوق السورية، وهذا المسار الاقتصادي يُستخدم كوسيلة لتقليل الأعباء الديموغرافية والسياسية على هذه الدول.

آثار الدمار بسبب القصف على عين ترما في ريف دمشق – 24 آب 2025 (عنب بلدي/ لبابة الطويل)

الرؤية الغربية: الاستثمار أولًا والاندماج في النظام المالي

أما الدول الأوروبية والغربية، فتنظر إلى إعادة الإعمار من زاوية مختلفة، إذ تشترط الوصول إلى مرحلة يمكن فيها للشركات الأجنبية الدخول إلى السوق السورية بشكل آمن وشفاف، من خلال توفير بنية تحتية قابلة للعمل، وتشريعات تسمح بالاستثمار، وحرية مالية ومصرفية. وترى هذه الدول أن إعادة الإعمار تعني أن تصبح سوريا جزءًا من النظام المالي العالمي، ما يتطلب وجود منافذ بحرية وجوية مفتوحة، ورفع رواتب العاملين لزيادة القدرة الشرائية للمنتجات الأوروبية، حينها فقط تعتبر هذه الدول أن سوريا “أُعيد إعمارها” وفق تعريفها الاقتصادي.

نموذج محلي يتلاءم مع خصوصية سوريا

النموذج الأنسب لسوريا ليس بالضرورة مطابقًا للنموذج الغربي أو الإقليمي، بل يجب أن يكون مبنيًا على مشاركة المجتمعات المحلية في التنمية. ويمكن اعتماد مقاربة واقعية تبدأ من حملات تبرعات تنموية مجتمعية، كالتي حدثت مؤخرًا في عدد من المحافظات السورية، يليها إصلاح تدريجي للبنى التحتية الرئيسة، ثم تشجيع الاستثمار المحلي والقطاع الخاص.

ويجب أن تعود العمالة السورية وتُدمج في السوق، مع رفع الأجور تدريجيًا، وزيادة الضرائب بشكل مدروس لتمويل مشاريع الدولة، إلى جانب تقسيم المناطق إلى أقاليم اقتصادية تتنافس فيما بينها لتحقيق التنمية والتكامل الاقتصادي الداخلي.

رؤية مرنة ومتماشية مع الواقع السوري

هذه الرؤية لا تفترض فتح سوريا بالكامل أمام الاستثمارات الغربية في المرحلة الأولى، بل تعطي الأولوية للمستثمرين المحليين والقطاع الخاص السوري، كما تهدف إلى رفع مستويات الدخل بما يتناسب مع متطلبات المعيشة، وتشجيع الصناعة والموارد المحلية. ويجب ألا يكون الانخراط في النظام المالي العالمي شرطًا أوليًا، بل نتيجة تدريجية لعملية بناء داخلية يقودها السوريون أنفسهم، من خلال تحريك الاقتصاد المحلي ودفع عجلة الإنتاج، بما يخلق نموذجًا تنمويًا ينبع من الواقع السوري نفسه، ويعكس حاجات وتطلعات السوريين.

كل طرف يسعى لفرض رؤيته تجاه كيفية إعادة الإعمار على سوريا، والمنح التي يمكن أن تقدم من خلال الدول الأوروبية أو الصندوق والبنك الدوليين، تهدف إلى إعادة اللاجئين السوريين أو الجزء الأكبر منهم، أو دعم وتنشيط القطاع الخاص بمشاريع بنى تحتية معينة، أو زيادة موارد الدولة من خلال تدريبات في الإدارة المالية والموازنة، أو رفع رواتب الموظفين لبدء عملية التنمية من وجهة نظر الغرب. ليس هناك شيء مجاني، ولكن هذه المقاربة الغربية تلتقي مع المقاربة الوطنية، أي أن هناك مصالح مشتركة في بعض الجوانب، وذلك أمر مقبول بالنسبة لسوريا، لبدء مرحلة إعادة الإعمار.

مشاركة المقال: