شهدت مدينة نيويورك مؤتمرًا دوليًا واسعًا أسفر عن تبني «إعلان نيويورك» الذي حظي بتأييد 142 دولة في «الجمعية العامة للأمم المتحدة». أكد الإعلان الالتزام الدولي بـ«حل الدولتين» ورسم مسار «لا رجعة فيه» نحو «إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل». كما شدد المؤتمر على أولوية وقف الحرب في غزة، و«إنهاء حكم حماس ونزع سلاحها وتسليمه للسلطة الفلسطينية بدعم دولي»، وذلك انسجامًا مع هدف «إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح».
أقر البيان أيضًا «نشر بعثة دولية مؤقتة لحفظ الاستقرار في غزة بناءً على دعوة من السلطة الفلسطينية وتفويض من مجلس الأمن، إلى جانب تدريب وتجهيز قوات الأمن الفلسطينية»، داعيًا إسرائيل إلى وقف الاستيطان ومصادرة الأراضي، معتبرًا أن «أي ضم إسرائيلي لأراضٍ فلسطينية خط أحمر». كذلك، ربط إنهاء الاحتلال بـ«إدماج إسرائيل الكامل في المنطقة وفق مبادرة السلام العربية»، داعمًا «إنشاء منظومة أمنية إقليمية».
في كلمة ألقاها عن بعد، شدد رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، على «ضرورة وقف الحرب في غزة فورًا وإطلاق سراح جميع الرهائن والأسرى». وجدد تمسكه بـ«الحل السلمي ورفض العنف من أي طرف»، مدينًا «استهداف المدنيين أيًا كان مصدره، بما في ذلك ما قامت به حماس في 7 أكتوبر 2023». وطرح رؤيته للمرحلة المقبلة، والتي تقوم على أن السلطة هي الجهة الشرعية الوحيدة المؤهلة لتحمل المسؤولية في غزة، ضمن «إدارة مؤقتة»، بمشاركة عربية ودولية، مشددًا على أنه «لن يكون لحماس دور في الحكم».
كما دعا الفصائل إلى «تسليم أسلحتها للسلطة»، من أجل قيام «دولة واحدة ذات سيادة وسلاح شرعي واحد»، متعهدًا بـ«تنفيذ إصلاحات جوهرية»، قاصدًا بذلك إلغاء نظام مخصصات الأسرى الفلسطينيين في سجون العدو وعائلاتهم، وتعديل المناهج التعليمية على نحو ينزع منها فكرة العداء للاحتلال الإسرائيلي.
في المقابل، قوبلت مخرجات المؤتمر والاعترافات الدولية التي رافقته، برفض وغضب إسرائيليَّيْن، إذ وصفت حكومة بنيامين نتنياهو الخطوة بأنها «مكافأة للإرهاب»؛ وأعلن رئيسها رفضه القاطع لقيام دولة فلسطينية، متوعدًا بالرد «بعد عودته من واشنطن»، ومؤكدًا أنه «أحبط لسنوات الضغوط الدولية عبر تعزيز الاستيطان». كما انضمت المعارضة إلى ذلك الموقف الرافض، معتبرة الاعترافات الدولية «مدمرة» لمصالح الكيان. أما وزراء اليمين المتطرف، وعلى رأسهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، فدعوا صراحةً إلى ضم الضفة الغربية المحتلة بالكامل أو أجزاء واسعة منها كردّ مضاد وفوري.
أعلن بن غفير عزمه طرح مشروع قرار في الاجتماع الحكومي القادم لـ«بدء إجراءات فرض السيادة (الضمّ)»، في حين اعتبر سموتريتش، المعروف بدعوته الدائمة إلى الضم، أن «الرد الوحيد على هذه الاعترافات هو فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية»، مخاطبًا نتنياهو بالقول: «إنه الوقت المناسب… القرار بيدك».
ترى واشنطن أن أولويتها إنهاء الحرب بشروط تضمن القضاء على «حماس».
باشرت إسرائيل إجراءات ردّها، حيث أغلقت معبر اللنبي – المنفذ البري الوحيد بين الضفة والأردن – «حتى إشعار آخر» بذريعة «دواعٍ أمنية»، وذلك بعد أيام من عملية إطلاق نار نفذها سائق شاحنة أردني عند المعبر. لكنّ توقيت القرار الذي جاء بعد تصريحات نتنياهو، عزّز القناعة بكونه جزءًا من الرد الإسرائيلي على الاعترافات.
جاء موقف إدارة دونالد ترامب متحفظًا بشدة؛ إذ انحازت واشنطن كعادتها إلى الرواية الإسرائيلية، واصفة الخطوات الدولية بأنها «مضللة»، ومعتبرة أنها تؤدي إلى «نتائج عكسية». وفي خطابه أمام الجمعية العامة، ندد الرئيس الأميركي باعتراف بعض حلفاء بلاده بفلسطين، واصفًا ذلك بأنه «مكافأة لحماس على فظاعات مروعة». وأضاف أن هذه الاعترافات تكافئ الحركة، «حتى بعد رفضها إطلاق سراح الرهائن أو الموافقة على وقف لإطلاق النار».
كما جدد القول إن «حماس منظمة إرهابية لا تستحق أي مكافأة»، محذرًا من أن «الاعترافات تقوض فرص إنهاء الحرب في غزة سلميًا». وفي الوقت الذي أكد فيه أن المطلوب اليوم هو «إنهاء حرب غزة والتفاوض فورًا على السلام وإعادة الرهائن»، اعتبر أن هذا الحل «لا يجب أن يكون على حساب أمن إسرائيل أو السماح بانتصار حماس».
توافق كلام ترامب، مع المواقف التي كان أطلقها وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، الذي اعتبر أنه «لا يمكن تحقيق سلام طالما حماس موجودة»، ورأى أن «أي وقف للقتال يجب أن يبدأ بإطلاق سراح الرهائن وتسليم جثامين القتلى، ليُصار بعد ذلك إلى إعادة إعمار غزة بدعم دولي كبير، شرط استبعاد حماس من الحكم»، في إشارة إلى رؤية واشنطن لليوم التالي.
هكذا، يتأكد، يومًا بعد يوم، أن أولوية الولايات المتحدة إنهاء الحرب في غزة بشروط تضمن القضاء على «حماس»، ولا تمنحها أي مكاسب سياسية حتى ولو غير مباشرة عبر الاعتراف بدولة فلسطينية. ومع أن الحركة عدّت الاعترافات الدولية «انتصارًا تحقق بفضل تضحيات الفلسطينيين»، إلا أن ذلك لا ينفي كون المشروع المطروح غرضه إقصاء «حماس» عن المشهد الفلسطيني بشكل شبه كامل، إذ يُفترض أن تنتهي سيطرة الحركة على غزة سواء بالعمل العسكري أو بالترتيبات اللاحقة، وأن يتم تجريد جناحها العسكري من الأسلحة. وحتى وجودها السياسي يُتوقع أن يضمحل إن وُضعت شروط دولية تمنع مشاركة أي فصيل رافض لـ«الاتفاقات الدولية» في الانتخابات الفلسطينية القادمة.
في حين رأى كثير من المراقبين أن «مؤتمر نيويورك» شكل تحولًا مفصليًا أعاد الزخم الدولي إلى القضية الفلسطينية، اعتبرت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن الاعترافات الجماعية الأخيرة بدولة فلسطين «ستعمق الانقسام الدبلوماسي العالمي بين معسكر مؤيد لحقوق الفلسطينيين، ومعسكر آخر تقوده إسرائيل وحليفها الأميركي». كذلك، تساءل محللون إسرائيليون عما إذا كان نتنياهو «سيندفع بعيدًا في الرد» تحت ضغط شركائه اليمينيين بما قد يضر إسرائيل نفسها.
في المقابل، وصف آخرون المؤتمر بأنه «مجرد حشد دعم دولي رمزي للقضية الفلسطينية يفتقر إلى آليات التنفيذ»، منتقدين تجاهل إشراك القوى الفاعلة على الأرض مثل «حماس»، الأمر الذي قد يجعل منه تكرارًا لمسار «أوسلو» الذي انتهى بالفشل. كما حذروا من رفع سقف التوقعات كثيرًا، مشيرين إلى أن «إسرائيل لا تزال ماضية في حربها الضارية على غزة واستيطانها في الضفة من دون أي مؤشرات إلى التراجع».