تواجه مدينة دمشق القديمة تحديات متزايدة تهدد معالمها التراثية، وعلى رأسها البيوت الدمشقية التي لطالما شكلت هوية عمرانية واجتماعية فريدة للمدينة. هذه البيوت ليست مجرد مساكن، بل هي فضاءات معمارية تحمل قيمًا اجتماعية وثقافية ودينية، وترتبط بالذاكرة المجتمعية للسوريين.
على الرغم من الجهود الفردية لبعض الأهالي للحفاظ عليها، تعرض الكثير منها خلال العقود الماضية للتشويه أو الاستخدام التجاري الذي أفقدها خصوصيتها. وفي حديث لـ عنب بلدي، وصف الباحث في التراث الشعبي محيي الدين قرنفلة البيت الدمشقي بأنه مثال للعمارة التقليدية في الوطن العربي، موضحًا أن عمارته تمزج الفن الإسلامي بروح التراث السوري العريق، وتشكل نموذجًا متفردًا في تصميم البيوت العربية القديمة.
بين الترميم و"التشويه"
واجهت البيوت الدمشقية، التي يصل عددها إلى ما يقارب 6000 بيت، الإهمال خلال السنوات الماضية، حيث منع النظام السابق الأهالي من أي أعمال ترميمية دون موافقته. وأشار محيي الدين قرنفلة إلى أن مدينة دمشق تعرضت على مدار 60 سنة للكثير من الإهمال المتعمد، ما أدى إلى تحول الكثير من بيوت دمشق القديمة داخل السور إلى مطاعم وفنادق ومقاهٍ. واعتبر أن هذه الاستثمارات أدت إلى تشويه معالم بعض البيوت الدمشقية بعد استغلالها تجاريًا بحجة الترميم والتجديد، ما تسبب بفقدان هذه البيوت هويتها الأساسية.
وأضاف قرنفلة أنه في السنوات الأخيرة، أصبح من الصعب جدًا قيام سكان البيوت بأعمال ترميمية، ولو لعتبة باب البيت، بسبب قيود النظام السابق داخل أحياء دمشق القديمة، حتى أصبحت حالة بعضها مزرية جدًا.
البيت الدمشقي ليس فقط مكانًا للعيش، بل هو تحفة فنية معمارية تجسد أصالة دمشق، المدينة التي سكنت في قلب التاريخ والحضارة.
محيي الدين قرنفلة
باحث في التراث الشعبي
جولة في البيت الدمشقي
تحدث محيي الدين قرنفلة عن خصوصية البيت الدمشقي الذي تميز بعدة أقسام حرص الدمشقيون على الحفاظ عليها، وهي:
- باب الزقاق: كان الباب عليه "سقاطة" على شكل قبضة اليد من النحاس الأصفر، مكونة من اثنتين، واحدة صغيرة وأخرى أكبر منها. وأوضح قرنفلة أنه عندما كانت تطرق "السقاطة" الكبيرة، يُعرف أن الطارق رجل، وعند طرق الصغيرة يكون الطارق امرأة.
- الدهليز: أي مدخل البيت الدمشقي، وهو ممر طويل بين أربعة وستة أمتار، وبعرض بين مترين وثلاثة أمتار، ويفضي بآخره يمينًا أو يسارًا إلى فسحة سماوية تسمى "أرض الديار"، تتوسطها بحرة مياه ولها نافورة ترتفع قليلًا، لتعطي جمالية للمكان، والتي اكتسبت خصوصية عند الدمشقيين.
- الليوان: يشبه غرفة كبيرة ولكن بلا أبواب، بحيث يكون ملجأ للعائلة أيام الحر الشديد، حيث لا تصله الشمس.
- غرف الضيوف: وكانت تسمى "الحرملك" للنساء، و"السلاملك" للرجال.
- غرف النوم: غالبًا تقع في القسم "الفوقاني"، أي فوق غرف الطابق الأرضي.
- المشرقة: وهي فسحة سماوية في القسم "الفوقاني"، تتميز بأنها تشرق الشمس عليها أولًا.
- الطيارة: وهي السطح الأخير في البيت الدمشقي، وله "طبلة"، أي سور من نواحيه الأربع، لإبعاد أعين الفضوليين وخاصة "الحميماتية"، ومن عادة أهل دمشق قديمًا السهر في الطيارة والنوم فيها أيام الصيف الحار.
- بيت "المونة": ويعتبر أساسيًا في البيت الدمشقي، وفيه يتم وضع "مونة" البيت التي يتم تحضيرها في فصل الصيف، وتشمل المواد الغذائية كافة من الخضار المجففة والأجبان والسمن والزيت والبرغل والأرز والقمح والبقوليات بجميع أنواعها.
- المطبخ: أهم مكان في البيت، وتقضي فيه سيدة البيت معظم وقتها.
اهتمام حكومي غائب
استولى النظام السوري السابق على عدد من البيوت الدمشقية، مثل بيت "نظام" وبيت "السباعي"، وسخرها لتصوير أعمال الدراما الدمشقية التي شوهت التراث الدمشقي، فهناك أعمال أساءت لسكان دمشق وعاداتهم وتقاليدهم، بحسب محيي الدين قرنفلة. واعتبر الباحث أن هذه البيوت تمثل رمزًا لمدينة دمشق القديمة، فالسائح يأتي ليشاهد دمشق ذات السور لا ليقطن في الفنادق المعاصرة.
ويرى قرنفلة أنه لا بد من الحفاظ على المدينة القديمة بحاراتها وبيوتها ومرافقها العامة، فرغم نشاط الجمعيات التطوعية لحماية إرث هذه البيوت، فإنها لم تتلق سابقًا أي دعم حكومي. ويأمل قرنفلة في ختام حديثه لعنب بلدي، باهتمام الجهات المعنية بهذه البيوت الدمشقية، لإعادة إحيائها من جديد وتصديرها للعالم بصورة تليق بالعاصمة دمشق.
"البيوت الدمشقية تبحث عمن ينقذها لتبقى تاريخًا شاهدًا على مر العصور في عاصمة صدرت العراقة والحضارة للعالم".