الثلاثاء, 14 أكتوبر 2025 10:41 AM

قانون الخدمة المدنية الجديد في سوريا: تقييم يكشف عن إشكاليات جوهرية تستدعي المراجعة

قانون الخدمة المدنية الجديد في سوريا: تقييم يكشف عن إشكاليات جوهرية تستدعي المراجعة

أي مشروع قانون عام يخص الدولة بمؤسساتها وموظفيها، يجب أن يكون إطارياً في جوهره، واضعاً التوجيهات العامة والواضحة التي تحفظ الحقوق وتحدد الواجبات، مع ترك مساحة معقولة للجهات الحكومية للتكيف مع طبيعة عملها المتفردة. لكن المشكلة في هذا المشروع أنه غاص في تفاصيل إدارية متشعبة، هي بالأصل من صميم عمل كل وزارة أو جهة.

عندما يُفرض قانون عام نموذجاً هيكلياً وتصنيفياً واحداً على جميع المؤسسات، باختلاف مهامها وتعقيدات عملها، تكون النتيجة هي "قولبة الإدارة" وإلغاء أي خصوصية أو مرونة تحتاجها الجهات للتطوير والابتكار. النص في المادة (16) الذي يخول كل جهة وضع نظامها الداخلي، يبدو في ظاهره مرناً، ولكنه في حقيقة الأمر يكرس المشكلة؛ فالهيكل الوظيفي الأساسي (الفئات والمراتب) مُحدد مسبقاً بالقانون، مما يجعل مهمة الجهة مجرد "ملء فراغات" في نموذج جاهز. هذا التشعب التنظيمي سيبقى "تشعباً ورقياً وافتراضياً" يفتقر إلى الربط الحقيقي بطبيعة العمل ومتطلباته على الأرض. الأصل أن تضع كل وزارة هيكلها التنظيمي بناءً على احتياجاتها، ثم يتم مناقشته وتنسيقه مع وزارة التنمية الإدارية كجهة رقابية وتنظيمية، وليس كجهة مفروضة هيكليتها.

الملاحظ بشدة أن صياغة المواد القانونية تحمل نفس عقلية وآلية تفكير "حكومة الإنقاذ"، حيث تم حفظ حق الدولة بشكل مُطلق على حساب الحقوق الأساسية للموظف. لقد ضعف الضمان الذي كان يحمي الموظف ووُضِعَ مستقبله الوظيفي تحت رحمة السلطة التقديرية للمدير المباشر دون معايير واضحة. مثال صارخ على ذلك: عدم تثبيت موظفي الفئات (الثالثة، الرابعة، الخامسة): هذه سابقة خطيرة. كيف يمكن للموظف أن يبني استقراراً نفسياً وأسرياً ومجتمعياً وهو يعلم أن أي إشكال بسيط مع مديره – قد يكون لأسباب شخصية أو غير موضوعية – يمكن أن ينهي مصدر رزقه؟

منح الجهة العامة سلطة إنهاء العقد دون وضع معايير أو ضوابط موضوعية هو تفريط صريح بحقوق الموظفين. وضع قرار تجديد عقد موظف في يد المدير المباشر وحده يفتح الباب على مصراعيه للمحسوبيات والفساد. قد ينهي مدير فاسد عقد موظف شريف رفض التستر على مخالفات، ودون أن تكون هناك وثيقة إثبات فساد مباشرة ضد ذلك المدير. الوظيفة العامة هي حق وواجب معاً، كما كان ينص الدستور السوري. القانون الجديد أخل بهذا التوازن، فحوّل الوظيفة إلى منحة إدارية قابلة للسحب في أي وقت، وليس حقاً يكفله القانون.

خصص المشروع مواداً لفئات الوظائف وأخرى للمراتب، بهدف "توحيد المعايير المالية لتحقيق العدالة والشفافية". لكن الطريقة التي طُبّق بها هذا الهدف خلقت نظاماً معقداً أشبه "بمتاهة بيروقراطية". لنأخذ مثالاً توضيحياً: تم تقسيم الفئة الأولى إلى ست مراتب (من الهامشة إلى الممتازة). كل مرتبة تضم ثلاث درجات (ما عدا الممتازة). الخريج الجامعي العادي يبدأ في الفئة الأولى، المرتبة الخامسة، الدرجة الثالثة. لينتقل بعد سنة إلى الدرجة الثانية، ثم بعد سنة أخرى إلى الدرجة الأولى في نفس المرتبة. بعدها ينتقل إلى المرتبة الرابعة، الدرجة الثالثة، وهكذا. هذا النظام المتراكم يحول المسار الوظيفي إلى سباق ممل في متاهة من الأرقام والترقيات الآلية التي قد لا تعكس الكفاءة الحقيقية أو الجهد المبذول، بل مجرد مرور الوقت.

الإشكالات لا تقف عند التعقيد، بل تمتد إلى إفساح المجال للفساد الإداري وعدم الموضوعية، وهي نفس الآفة التي عانى منها النموذج المركزي السابق الذي فشل فشلاً ذريعاً. ذلك النظام كان فاسداً بامتياز، حيث تحول إلى أداة للمحسوبية واستُخدم من قبل بعض المدراء ورؤساء الشعب والدوائر كـ "باب مالي فاسد ولكن قانوني"، بينما دفع ثمنه الموظف المجتهد المحروم من حقوقه. وجذر المشكلة كان في "تعميم القوالب" التي لا تحترم خصوصية أي جهة. اليوم، يعيدنا المشروع الجديد إلى نفس الدائرة عبر أنظمة التعويضات والحوافز المعقدة.

لم يُحدد القانون معايير واضحة لتطبيق العقوبات، مما يمنح المدير سلطة تقديرية مطلقة قد يستخدمها لتأديب موظف يختلف معه، أو لممارسة الضغط لتمرير أعمال غير سليمة. تم ترك عملية تقييم وتصنيف المتعاقدين الحاليين بشكل كامل للمدراء، دون اعتماد معايير موضوعية من الماضي الوظيفي للموظف. لم تؤخذ بعين الاعتبار المشاركة في التدريبات ودورات الحاسوب واللغة، والعمل في اللجان والمبادرات الإضافية، والسجل الوظيفي من حيث الإنجازات، وعدد أيام الغياب أو الأيام التي عمل فيها الموظف دون أخذ إجازة. هذا يخلق بيئة خصبة للتقييمات المتحيزة والخالية من الموضوعية، حيث يمكن مكافأة الموالين ومعاقبة النزيهين.

التشعبات في نظام الحوافز والعلاوات تخلق أبواباً جديدة للمحسوبيات. في السابق كان عمل اللجان عملاً متعباً يتهرب منه "المدعومون" بينما يتحمله "النشطاء". اليوم، مع ربطه بحوافز دون رقابة، قد يصبح "مغنماً للمقربين" بغض النظر عن الكفاءة. في كثير من المؤسسات الخدمية، العمل لا يحتاج أساساً لساعات إضافية. قد تتحول علاوة الدوام الإضافي إلى "باب للفساد"، حيث تُصرّف مبالغ طائلة مقابل أعمال روتينية كان من المفترض إنجازها ضمن الدوام الرسمي. منح صلاحيات واسعة في التعيين لوزارة التنمية الإدارية هو عودة لنموذج المسابقة المركزية الذي أثبت فشله ذريعاً في السابق.

النموذج الأمثل هو تجاوز المركزية المعيقة عبر منح كل وزارة نظام حوافز وعلاوات داخلي خاص بها، مع رصد تخصيص مالي محدد ضمن ميزانيتها، وأن تقوم كل وزارة، كونها الأدرى باحتياجاتها، بوضع وإجراء مسابقاتها الوظيفية، مع التنسيق والرقابة من وزارة التنمية الإدارية، وتشكيل لجنة عليا مشتركة (بممثلين من عدة مديريات وجهات رقابية) لمتابعة ومراقبة عمليات التعيين وأنظمة الحوافز لضمان الشفافية والعدالة، والحد من السلطة التقديرية المطلقة للمدراء.

مشروع قانون الخدمة المدنية الحالي، وبصياغته الحالية، يكرس لمركزية مفرطة، ويعقد البنى الإدارية دون مبرر، ويهدر حقوق الموظفين الأساسية في الاستقرار والعدالة، ويفتح أبواباً واسعة للفساد الإداري والسلطوي. يتطلب هذا القانون مراجعة جذرية تعيد التوازن بين سلطة الدولة وحقوق الموظف، وتستبدل التعقيد بالمرونة، والسلطة المطلقة بالمعايير الموضوعية، والنموذج المركزي الفاشل بنموذج لامركزي يحترم خصوصية كل جهة ويصون حقوق العاملين. زمان الوصل

مشاركة المقال: