الأحد, 19 أكتوبر 2025 10:25 PM

صراع المعادن النادرة: هيمنة اقتصادية وقمع عابر للحدود

صراع المعادن النادرة: هيمنة اقتصادية وقمع عابر للحدود

لمى قنوت: يتسبب التنافس الرأسمالي الشديد والحروب من أجل الاستحواذ على الموارد في أزمات اقتصادية، وتدمير بيئي، وإفقار جماعي، واضطرابات اجتماعية، وتأجيج أو خلق صراعات. ومع تطور هذه الديناميكيات، تتجه السياسات من تقليص دور الدولة والأسواق الحرة القائمة على المنافسة، إلى تدخل الدولة لفرض قيود على تصدير المعادن النادرة، كما فعلت الصين مؤخرًا، ورفع الرسوم الجمركية، كما في سياسة ترامب الحالية.

تمثل حروب "العناصر الأرضية النادرة" (Rare Earth Elements)، المكونة من 17 عنصرًا كيماويًا (السكانديوم والإتريوم واللانثانيدات)، محورًا للصراع الجيو-اقتصادي، خاصة في ظل التحول العالمي نحو الطاقة "النظيفة"، والتطور الرقمي، والعسكرة المتنامية للتكنولوجيا. هذه العناصر لم تعد نادرة، فهي موجودة في القشرة الأرضية، باستثناء "البروميثيوم"، لكن وجودها المتناثر يجعل استخراجها صعبًا وغير صديق للبيئة.

تدخل هذه المعادن في الصناعات العسكرية وأجهزة الليزر والهواتف الذكية والأقمار الصناعية، وهي ضرورية لتكنولوجيا البطاريات، والمحركات الكهربائية، والمغانط الدائمة، والإلكترونيات الدقيقة، وبعض المنتجات الطبية، والعديد من المنتجات الاستهلاكية، ولها أهمية لمستقبل الطاقة المتجددة، كإنتاج توربينات الرياح الكهربائية والمصابيح الموفرة للطاقة والسيارات الكهربائية وغيرها.

تتحول السيطرة على سلاسل التوريد إلى قوة وسلاح جيوستراتيجي عند الدول الغنية التي تستثمر في التنقيب عن تلك المعادن وتدعم تكريرها ومعالجتها، خصوصًا داخل بلادها، كالولايات المتحدة والصين وأستراليا. لذا، تعتبر هذه المعادن أكثر من مجرد سلعة، فهي موارد استراتيجية في الاقتصاد السياسي العالمي، وميدان لتنافس الدول من أجل فرض شروط الاستثمار والتصنيع على دول أخرى.

تعتبر الصين أكبر مورد للمعادن النادرة في العالم، حيث يأتي منها 61% من تلك المعادن، بحسب وكالة الطاقة الدولية. وفي مرحلة المعالجة، تسيطر الصين على 92% من الإنتاج العالمي. ومن المتوقع أن يتضاعف الطلب أربع مرات بحلول عام 2040 في إطار سيناريو التنمية المستدامة لوكالة الطاقة الدولية، الذي سيتم فيه العمل العالمي للحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى أقل من 2°C.

ويرجح أن يؤثر عاملان رئيسان على الديناميكيات المحيطة بتوريد تلك المعادن اللازمة للتحول في مجال الطاقة: الهيمنة الصينية على تلك القطاعات وعلى سلاسل توريدها، وجعل سلاسل التوريد هذه "أنظف" و"أكثر خضرة"، بمعنى الحد من الآثار السلبية المرتبطة باستخراج ومعالجة تلك المعادن، وذلك باستخدام تقنيات أكثر استدامة، وتقليل تلوث المياه والتربة والهواء، وخفض انبعاث الكربون، وضمان الحقوق العمالية في جميع المراحل، وعدم التسبب في ضرر للمجتمعات المحلية، وضمان امتثال سلاسل التوريد للمعايير البيئية الموصى بها.

الحرب الجيو-اقتصادية بين بكين وواشنطن

بعد أن سحبت كل من واشنطن وبكين بعض تعريفاتهما الجمركية تجاه بعضهما في أيار الماضي، بهدف تهدئة التوترات، فرضت وزارة التجارة الصينية، في 9 من تشرين الأول الحالي، تطبيقًا فوريًا لضوابط إضافية على تقنيات وعناصر المعادن النادرة، في تشديد إضافي على هذا القطاع. وفي اليوم التالي، أعلن ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الواردات الصينية، إضافة إلى ضوابط تصدير جديدة، تبدأ اعتبارًا من 1 من تشرين الثاني المقبل.

أدى هذا التصعيد التجاري الحالي بين البلدين إلى انهيار في أسعار النفط والأسهم الأمريكية جراء توقع رد صيني محتمل يزيد من حجم الاضطرابات، وارتفع سعر الذهب، سعيًا للحصول على أصول آمنة، وثمة مخاوف من انعكاس ذلك على سلاسل التوريد، وتغييرات في الخرائط الصناعية العالمية.

تستعر حرب الهيمنة، فالصين ترد على سياسة واشنطن في تحكمها بالتكنولوجيا والتقنيات المتطورة، مثل قطع الرقائق الإلكترونية الأكثر تقدمًا، واستخدمها لتعزيز سيطرتها، وخاصة في عسكرة التكنولوجيا، ويمكن لواشنطن أن تُوظّف هذه السياسة أيضًا، كأسلوب لردع الصين في أي تصعيد عسكري محتمل ضد تايوان.

في المقابل، ترى الصين أن توظيف المعادن النادرة في صناعات، مثل الصناعات الدفاعية، قد يضر في مصالحها، ويعرض أمنها القومي للخطر، وهي تعمل لتوسيع نفوذها وقدرة تأثيرها، وفرض شروطها، وتعزيز أوراقها التفاوضية، ويمكنها عبر قطع المعادن الحيوية أو تقييد وصول واشنطن إليها، إلحاق ضرر في بعض صناعاتها العسكرية.

حروب المعادن وانتهاكات حقوق الإنسان والتدمير البيئي

عن تأثير حروب المعادن على دول الجنوب العالمي، مثل دول إفريقيا، وفي أمريكا اللاتينية، وجنوب آسيا، وبعض دول المنطقة، فإن التعدين المكثف يُسبّب تدميرًا بيئيًا كبيرًا، مثل إزالة الغطاء النباتي، وحفر أراضٍ واسعة، وتلوث المياه السطحية والجوفية بالأحماض والمعادن الثقيلة، وتهريب النفايات السامة، وتفلّت الغازات السامة، وفي بعض المناجم النادرة، تكون المعادن مصحوبة بعناصر مشعة أو كيماويات خطرة (اليورانيوم) أو نفايات صناعية حمضية، ما يزيد صعوبة إعادة التأهيل البيئي.

بالإضافة إلى أن الاستثمارات في المعادن النادرة، كجنوب إفريقيا مثلًا، لا تراعي الشروط البيئية المحلية والبنى التحتية الضعيفة، كتشغيل مياه الصرف، ومعالجة النفايات، والرقابة البيئية. ويؤدي انتشار التعدين المكثف للمعادن الثقيلة وتعدد مواقع التنقيب إلى تلوث الأنهار، وارتفاع مستويات الزرنيخ، مما له تأثير سيئ على المجتمعات المحلية والأراضي الزراعية، كما حصل في ولاية كاشين (Kachin) شمال ميانمار، التي أسهمت ممارسات استخراج المعادن فيها بتمويل الصراع والدمار في المنطقة.

وقد يؤدي الصراع على المناجم في المناطق الهشة، التي تدعمها شركات أو دول مهيمنة، إلى عسكرة المجتمعات أو استقطاب وتمويل ميليشيات مسلحة لفرض السيطرة على المناجم، مما يخلق دوامات عنف محلية تعقد المشهد، كما هو الحال في الكونغو. وفي البيئات الهشة ومناطق الصراع، يُجَنِد العاملون في المناجم الأطفال والفئات المهمشة والمُفقرة، ويتم تشغيلهم ضمن ظروف عمل خطرة ولساعات طويلة دون حماية أو تأمين صحي أو حقوق نقابية أو بيئية، ويتم استغلالهم عبر أجور منخفضة جدًا، وبعض هذه الظروف غير الإنسانية ترقى لجريمة الاتجار بالبشر حسب القانون الدولي، وغالبًا ما تُحرم المجتمعات المحلية من المشاركة الحقيقية في الفوائد المالية والمنفعة العامة، وتتحمل الأضرار البيئية والاجتماعية.

الفقر وتفاوت القوة

ترزح كثير من دول الجنوب تحت نظام اقتصاد عالمي تسوده التبعية في سلاسل التوريد والتكنولوجيا، أي أنها تُصدر المواد الخام وتستورد المواد المُعالجة والمنتجات المصنَعة، مما يعني أن دول الشمال العالمي المهيمنة والمحتكرة للتكنولوجيا تستفيد من القيمة المالية المضافة على حساب الدول صاحبة الموارد الطبيعية، التي تضطر غالبًا لتصدير المواد الخام بهامش ربح أقل من قيمة الاستيراد بعد المعالجة والتصنيع، وعليه تستمر حلقة إعادة إنتاج تفاوت القوة بين الدول، وإفقار الجنوب العالمي.

مشاركة المقال: