تكشف المؤشرات الاقتصادية لعام 2025 عن تشوهات "مؤقتة" في التدفقات التجارية. فبينما توقع البنك الدولي تباطؤاً حاداً في النمو العالمي بنسبة 2.3% في 2025، كانت توقعات صندوق النقد الدولي في يوليو/تموز الماضي أكثر تفاؤلاً، حيث توقع نمواً عالمياً بنسبة 3.0%. هذا التفاؤل النسبي لا يعكس مرونة هيكلية، بل مرونة "هشة" قائمة على إجراءات مؤقتة. يفسر صندوق النقد الدولي جزئياً هذا التفاؤل بأنه نتيجة لما يسمى Strong front-loading: حيث زادت الشركات والأسر في الولايات المتحدة مشترياتها من الواردات والسلع الاستثمارية في الربع الأول من 2025 لتجنب التعرفة الجمركية المتصاعدة. هذا السلوك، الذي سجل خصوصاً في استيراد المعدات اللازمة لمعالجة المعلومات، أدى إلى تضخم مؤقت في أرقام التجارة والاستثمار في النصف الأول من العام.
يكمن جوهر المشكلة في أن هذا النمو زائف، وفي 2026، سندخل مرحلة "الارتداد/التعويض" (Payback)، ومن المتوقع أن يؤدي التراجع في الطلب إلى استخدام المخزونات المكدسة بدلاً من تقديم طلبات استيراد جديدة. هذا ما يبرر تعديل صندوق النقد الدولي توقعات حجم التجارة العالمية "هبوطاً" بنسبة 0.6 نقطة مئوية في 2026، بعد تعديلها "صعوداً" بنسبة 0.9 نقطة مئوية في 2025.
المسار مقلق. وثق صندوق النقد الدولي هذا الواقع بدقة في تقرير أصدره في يوليو/تموز 2025: "متوقع تراجع النمو العالمي إلى 3.0% في 2025 و3.1% في 2026، وهاتان النسبتان تقلّان عن المتوقع قبل ستة أشهر. لكن تحتهما يكمن احتمال أخطر كثيراً. إذا عادت الرسوم الجمركية إلى المستويات المعلنة في أبريل، فقد ينخفض النمو العالمي بنحو 0.2 نقطة مئوية إضافية. والتقرير نفسه يروي قصة أشد قتامة: سينخفض النمو العالمي إلى 2.3% فقط في 2025، وهذه أضعف نسبة نمو منذ 2008". من جهة أخرى، يتوقع البنك الدولي أن يبلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي 2.4% في عام 2026، وهو رقم يضعه ضمن مسار نموّ ضعيف يبلغ متوسطه 2.5% خلال العقد الحالي. هذا المسار، إذا استمر، سيكون الأبطأ للاقتصاد العالمي منذ الستينيات. إن النمو العالمي المتوقع لعام 2026 يظل أقل من متوسط النمو التاريخي البالغ 3.7% قبل الجائحة.
نقف مع الاقتصاد العالمي على مفترق طرق رئيسية:
- السيناريو الوسطي – ركود معتدل: تتفاقم الحرب التجارية قليلاً، لكن الدول تصل إلى اتفاقات تجنبها الأسوأ. يتراجع النمو العالمي إلى 2% في 2026، لكن لا انهيار مالياً كاملاً. تتراجع الأسهم 15 إلى 20%، يرتفع الذهب ويضعف الدولار.
- السيناريو الهبوطي – ركود شديد: ترتفع الرسوم الجمركية، وتعجز الدول عن التوافق، ينخفض النمو العالمي إلى 1% أو أقل، وتتراجع الأسهم 30 إلى 40%، ويتحد الركود مع التضخم، ويحلق الذهب فوق عتبة 5000 دولار.
- السيناريو الصعودي – سلام تجاري: تُحل الخلافات التجارية وتعود الثقة، ويثبت قطاع الذكاء الاصطناعي استدامته. يبقى النمو العالمي عند 3% أو أعلى. ترتفع الأسهم ويقوى الدولار ويتراجع الذهب.
ربما لن نفهم احتمال "الركود" في 2026 من دون التورّط في حرب دونالد ترامب التجارية. ففي أبريل 2025، أعلنت الإدارة الأميركية عن رسوم جمركية تاريخية متوسطها 24.4% على واردات دول مختلفة. لم يتردد لورنس سامرز، وزير الخزانة الأميركي السابق، في دق جرس الإنذار، إذ رجّح لـ"بلومبرغ" حينها أن نشهد ركوداً نرى فيه مليونَي عاطل إضافي عن العمل. وتبعه محمد العريان، رئيس كلية الملكة بجامعة كامبريدج، بالقول إن احتمال الركود الأميركي ارتفع من 10 إلى نحو 30%. ربما كان جيمي ديمون، رئيس بنك "جي بي مورغان تشيس"، الأكثر إقناعاً حين قال في أكتوبر 2025: "أتمنى الأفضل، وأخطط للأسوأ". وبكل تجرد، يعدّ كلام ديمون – في العادة – أحد المعايير الموثوقة لقياس صحة الاقتصاد الأميركي. ما عبّر عنه يستحق الاهتمام الجدّي.
حين تفرض دولة رسوماً جمركية على واردات دولة أخرى، يحدث تسلسل اقتصادي حتمي: ترتفع أسعار السلع المستوردة ويقل الدخل الحقيقي للأسر والشركات؛ تنخفض الاستثمارات الخاصة لأن الشركات لا تستطيع التنبؤ بالمستقبل؛ تواجه الدولة الأخرى صدمة سلبية في جانب الطلب. ولا تنتهي الحكاية هنا، ففي الولايات المتحدة نفسها، التأثير مختلف، فالرسوم الجمركية ضريبة مباشرة على الاستهلاك والاستثمار المحلي. وقد قدّر محللو "جي بي مورغان" أن رسوم ترامب تماثل ضريبة قدرها 430 مليار دولار على الأسر والشركات الأميركية، ما يعادل 1.4% من الناتج المحلي الإجمالي. ولأن النمو ضعيف في الأصل، فقد تدفع هذه الضريبة المفاجئة بالاقتصاد في هوة الركود.
بلغت الديون الحكومية مستويات غير مسبوقة في التاريخ الحديث. ففي الولايات المتحدة وحدها، تجاوزت الديون المستحقة 36 تريليون دولار، أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 120%. وكانت كريستالينا جيورجيفا، مديرة صندوق النقد الدولي، واضحة في تحذيرها من الخطر الآتي، إذ قالت في أكتوبر الماضي إن الاقتصاد العالمي "يعمل" أفضل مما كانت تتوقع، "لكن أسوأ ممّا هو مطلوب"، متوقعة، بوجه عابس طبعاً، أن تتجاوز الديون العالمية العامة 100% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2029.
وتكتسب أرقام مدفوعات الفائدة على الديون الحكومية معناها الفعلي حين ندرك أن هذه الفائدة تأكل جزءاً متزايداً من الميزانية الاتحادية الأميركية، ومتوقع أن تصل مدفوعات الفائدة الصافية إلى 13.8 تريليون دولار في العقد المقبل، وأن ترتفع من 1 تريليون دولار سنوياً في 2026 إلى 1,8 تريليون دولار بحلول 2035، لتكون خدمة الدين هي حبل المشنقة الذي يلتف بصمت حول عنق الميزانية الحكومية.
سيكون على وزارة الخزانة الأميركية إعادة تمويل 9,2 تريليونات دولار من الديون بحلول نهاية هذا العام، وما يصل إلى 9 تريليونات أخرى في 2026، فتبقى الحكومة الأميركية حبيسة ما يسمّيه الاقتصاديون "حلقة الموت"، أي تلجأ إلى ديون جديدة بفائدة أعلى لسداد ديونها القديمة، وهذا يزيد من عبء الفائدة، ويتطلب اقتراضاً أكثر.
لا أريد "التشاؤم"، لكن الاقتصادي نوريل روبيني، الشهير بتنبؤاته المتشائمة، قدم في نوفمبر 2025 ثلاثة سيناريوهات للاقتصاد الأميركي في 2026: "ركود النمو، أو ركود ضحل قصير المدى، أو نموّ قوي بدون انزلاق، لكن الأكثر احتمالاً هو سيناريو 'غولديلوكس' – أي الوضع 'الذهبي' المعتدل". غير أنه حذر من خطر حقيقي: "الآثار المتأخرة للرسوم الجمركية قد تدفع بالتضخم صعوداً، فتتآكل الأجور الحقيقية، وتضعف ثقة المستهلكين، وتخلق انقساماً بين مجموعات الدخل، لكن الخبراء يتفقون على أن احتمال ركود حادّ محدود".
يقترب الركود، فتصير الأصول التي يظنها الناس "آمنة" محفوفة بالمخاطر. الدولار مصرّ على أن يكون ضعيفاً. في النصف الأول من 2026، يتوقع "مورغان ستانلي" أن ينخفض مؤشر الدولار (DXY) نحو 5% إلى 94 بحلول منتصف العام، انعكاساً لخفض متوقع لأسعار الفائدة الأميركية. وفي النصف الثاني من 2026، حين تنتهي دورة خفض الفائدة ويبدأ الاقتصاد الأميركي بالانتعاش (إن حدث ذلك)، فربما يقوى الدولار. وبنهاية 2026، قد نرى الدولار قريباً من حيث بدأ عامه، لكن رحلته متعرجة جداً.
يبقى الذهب ملاذاً آمناً. فعندما يقلق المستثمرون، يركضون إلى الذهب، وهذا سيستمر في 2026. فالبنوك المركزية حول العالم تشتري الذهب بسرعة، والمستثمرون الأفراد والمؤسسات يتدفقون على صناديق الذهب المتداولة. في أسوأ السيناريوهات، عندما تنهار الأسهم والسندات، يرتفع الذهب. إلا أن بعضهم في "سيتي بنك" يتنبّؤون بأن الطلب قد يخفت بحلول الربع الرابع من العام الحالي وما بعده، "وربما نشهد انخفاضاً في سعر أونصة الذهب إلى 2500 دولار بحلول بداية 2026، إذا تحسّنت الثقة بالنموّ العالمي". لكن هذا السيناريو مغرق في التفائل.
للنفط مسلك مختلف. ترتفع أسعاره عندما يكون الاقتصاد قوياً، وتنخفض عندما يضعف. في سيناريو الركود، يتوقع "غولدمان ساكس" انخفاض سعر برنت في 2026 إلى 56 دولاراً للبرميل. وهذا توقع صادم للعرب. وفي سيناريو تفاقم الركود، ربما ينخفض السعر إلى 40 دولاراً للبرميل، أو حتى أقل، فتنهار اقتصادات عدة في المنطقة. أما في السندات والأسهم، فتكمن المشكلة الحقيقية: سيناريو "ستاغفلايشن" (Stagflation)، أي اتحاد التضخم والركود. وهذا هو أسوأ الممكن للاستثمارات التقليدية: تنهار الأسهم (لأن الشركات تحقق أرباحاً أقل) وتنهار السندات (لأن أسعار الفائدة ترتفع مع محاولة البنوك المركزية محاربة التضخم). حينها، الاحتفاظ بمحفظة من السندات والأسهم الدولية يعني مضاعفة الخسائر.
النموّ الهائل في الإنفاق على الذكاء الاصطناعي نقطة "مضيئة" في الاقتصاد العالمي… ولكن! يُذكّر الكثيرون بفقاعة الـ"دوت.كوم". فعمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة يخططون لإنفاق 344 مليار دولار على الذكاء الاصطناعي هذا العام، ويُتوقع أن يتجاوز إنفاقهم 500 مليار دولار قبل نهاية العقد. وهذا الزخم الاستثماري أدّى إلى تعويض ضعف النموّ في قطاعات أخرى من الاقتصاد الأميركي.
الخطر هنا كامن في تركيز القيمة السوقية (Concentration)، إذ تمثل أسهم "السبعة الكبار" (Magnificent Seven) نحو 35% من مؤشر S&P 500. ورغم أن هذه الشركات تتمتع بأسس مالية صلبة وبإيرادات ضخمة (300 إلى 500 مليار دولار سنوياً)، وما دام تمويل استثماراتها يتم غالباً من النقد لا الدين، وما دامت تقييماتها الحالية (26 إلى 30 ضعف الأرباح الآجلة) غير متطرفة كفقاعة الـ"دوت.كوم" في 2000 (70 ضعف الأرباح) ، يبقى الخطر ماثلاً في "الذكاء الاصطناعي – الحركة التصحيحية". وفي السيناريو الهبوطي الذي رسمه الاقتصاديون، يمكن التباطؤ الحاد في الاستثمار المرتبط بالذكاء الاصطناعي وهبوط أسعار الأسهم أن يؤدّيا إلى تباطؤ نموّ الناتج المحلي الإجمالي الأميركي أقل من 1% في عام 2026، وهذا تصحيح مفاجئ سيشعل موجة عالمية من "النفور من المخاطرة" (Risk-off sentiment)، ويؤدي إلى سحب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة الأقل ارتباطاً بقطاع التكنولوجيا.
تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بمركز مالي قوي يمكّنها من العمل بوصفها "جزراً منيعة" ضد التباطؤ العالمي. فمتوقع أن ينمو ناتجها المحلي الإجمالي نحو 4.5% في 2026، وهذا يتجاوز كثيراً التوقعات العالمية.
هذه المناعة مردودة إلى عاملين: الأول، تخفيف قيود "أوبك بلس"، إذ يتوقع أن تؤدّي خطط التخفيف التدريجي لقيود إنتاج النفط اعتباراً من أبريل 2025 إلى ارتفاع في الإنتاج النفطي في 2026، يُستكمل بنموّ في قطاع الغاز الطبيعي المسال؛ والثاني، النموّ غير النفطي القوي، إذ يشكل القطاع غير النفطي نحو 75% من النشاط الاقتصادي في السعودية والإمارات، ويستمر في النموّ القوي مدعوماً بإنفاق حكومي غزير على المشاريع الكبرى والبنية التحتية، خصوصاً في السياحة (تستهدف السعودية الوصول بقطاع السياحة إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030) والتقنية (بما فيها الاستثمار في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي).
إلى ذلك، تتمتع دول الخليج بـ"مساحة مالية" (Fiscal space) استثنائية، تمكنها من تشغيل سياسات معاكسة للدورة الاقتصادية. وهذا يعني أن الحكومات قادرة على زيادة الإنفاق العام والاستثمار حتى في ظل تباطؤ عالمي أو تراجع طفيف في عائدات النفط (إن لم ينخفض السعر عن 65 دولاراً للبرميل). بالتالي، المواطن الخليجي محميّ من أيّ تدهور حاد في مستويات المعيشة أو أي نقص في الخدمات العامة، فالدولة تمتص عنه الصدمة المالية.
وخلافاً لدول الخليج، تواجه الاقتصادات المستوردة للنفط في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديات مضاعفة. فرغم ارتفاع النموّ الإجمالي في هذه الدول إلى نحو 3.9% في 2026، فهذه النسبة تخفي هشاشة يمكن أن تتحول بسهولة إلى أزمة اجتماعية. فالأثر على المواطن العربي لا يعكسه الناتج المحلي الإجمالي، حيث إن تراجعاً طفيفاً في النمو قد يسبب تحديات اجتماعية كبيرة في الدول ذات الهشاشة المرتفعة. وهذا يظهر في قنوات انتقال مباشرة، كالتحويلات المالية (التباطؤ العالمي تهديد مباشر لتدفق التحويلات التي تشكل مصدر دخل حيوياً للأسر، وأي ضعف في الطلب على العمالة أو في الأجور في الدول المضيفة يؤدي إلى تراجع هذه التدفقات)، والتضخم في استيراد الغذاء (أي اضطراب في سلاسل التجارة يرفع أسعار السلع الأساسية) وتكاليف خدمة الدين (ارتفاع أسعار الفائدة العالمية يزيد من تكاليف خدمة الدين على مصر وتونس والأردن، وهذا يقلص الإنفاق العام على الصحة والتعليم والبنية التحتية).
من جهة أخرى، تتصدر الدول الهشة أو التي تشهد صراعات، مثل لبنان واليمن وسوريا والسودان، قائمة الدول العربية الأكثر تضرراً، وتعاني اقتصاداتها خسائر دائمة في الناتج المحلي الإجمالي للفرد. تعتمد هذه الدول على المساعدات التنموية لتمويل خدماتها الحيوية، ويمثل تراجع الدعم من المانحين في ظل الضغوط المالية العالمية صدمة مدمرة. فتراجع المساعدات يقلص الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم. وتُظهر التوقعات أن يتمركز الفقر بشكل متزايد في هذه الدول. وبحلول 2030، متوقع أن يعيش نحو 60% من فقراء العالم (365 مليون شخص) في الدول الهشة.