د. جمال الهاشمي
يشهد العالم اليوم تقلبات وتحديات متسارعة في ظل صراع القوى الكبرى على النفوذ، مما يؤدي إلى إعادة رسم خريطة المصالح العالمية. هذا الواقع يضعنا أمام نموذجين قطبيين متناقضين في فهم الديناميكيات الدولية، يتواجهان بشكل غير مباشر في سوريا وأوكرانيا، ويتداخلان في التأثير على الاستقرار العالمي. في هذا المقال، سنتناول استراتيجيات الولايات المتحدة وروسيا.
الولايات المتحدة الأمريكية، التي صاغت النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، تطورت من قوة عسكرية واقتصادية إلى تأسيس شبكة معقدة من التحالفات والسياسات التي تهدف إلى الحفاظ على نفوذها عبر أطر متعددة الأطراف، مع القدرة على تعديل استراتيجياتها حسب الظروف المتغيرة.
ترى واشنطن في النظام الدولي أداة عملية لضمان الاستقرار وحماية مصالح الدولة الأمريكية على المدى الطويل، مع مرونة محسوبة تسمح بالتكيف مع المتغيرات العالمية.
في المقابل، تنظر روسيا إلى العالم بمنظور يركز على الأمن القومي واستعادة النفوذ في مناطق تاريخية واستراتيجية، بدءًا من أوكرانيا وصولًا إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
تعتمد استراتيجية روسيا على مبدأ أن القوة، سواء كانت عسكرية تقليدية أو نووية، هي المعيار الرئيس لتحقيق النفوذ السياسي المباشر أو عبر أدوات غير تقليدية مثل الحرب بالوكالة والإعلام والدعاية، كوسائل أساسية لتحقيق التوازن في محيطها الإقليمي وضمان مصالحها الحيوية.
ينبع هذا النهج من إدراك تاريخي بأن النظام الدولي لا يحقق دائمًا العدالة أو الاعتراف بمصالح القوى الصاعدة، وأن الحفاظ على الأمن يتطلب تحركات دقيقة ومباشرة.
تعتمد الولايات المتحدة على أدوات قوة متعددة ومرنة، تشمل القوة العسكرية المنتشرة عالميًا عبر قواعدها العسكرية في البحار والدول الحليفة، والهيمنة الاقتصادية عبر الدولار والنظام المالي الدولي، والتحالفات الاستراتيجية مع حلفاء متعددين، والتفوق التكنولوجي في الاستخبارات والفضاء والذكاء الاصطناعي.
تمنح هذه الأدوات واشنطن القدرة على التعامل مع الأزمات عبر نطاق واسع، بدءًا من الضغط الدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية وصولًا إلى التدخل العسكري المباشر عند الحاجة.
في المقابل، تعتمد روسيا على أدوات محدودة لكنها فعالة، كالقدرة النووية والقوة العسكرية التقليدية في مناطق النفوذ، والنفوذ السياسي المباشر، وأدوات الحرب الهجينة التي تسمح بتحقيق أهدافها دون الانخراط في صراعات طويلة ومكلفة.
تكشف التحالفات الفروق الجوهرية في الاستراتيجية، حيث تعتمد أمريكا على شبكة واسعة من التحالفات المبنية على المصالح والقيم المشتركة، مما يسمح لها بالعمل جماعيًا ضمن الأطر الإقليمية والدولية مثل الناتو والتحالفات في آسيا والمحيط الهادئ.
بالمقابل، تركز روسيا على تحالفات محدودة غالبًا مع دول منبوذة أو معادية للغرب، وتوظفها كورقة ضغط استراتيجية أكثر من كونها وسيلة للتوسع العالمي التقليدي، مستندة إلى العلاقات الثنائية والاعتماد على مصالح مباشرة.
تختلف أساليب التدخل كذلك، حيث تميل تدخلات الولايات المتحدة إلى الشمولية، مثل دعم الحركات السياسية والعقوبات الاقتصادية والدبلوماسية، وأحيانًا استخدام القوة العسكرية ضمن رؤية استراتيجية للحفاظ على النظام الدولي.
بينما تدخلات روسيا غالبًا ما تكون محدودة وموضوعة، إذ تستغل نقاط ضعف خصومها باعتمادها على الحروب بالوكالة والنفوذ الإعلامي أو التحكم في الموارد الاقتصادية كالغاز والنفط لتوجيه النتائج بما يخدم مصالحها.
أبرزت إدارة ترامب الثانية انعطافًا مهمًا في هذه المعادلة، إذ سعت إلى إعادة تعريف الأولويات الأمريكية مع التركيز على الاستراتيجية الأحادية في بعض الملفات وتقليل الاعتماد على التحالفات التقليدية، خصوصًا في أوروبا، وقد بدأت مرنة في التعامل مع روسيا مستغلة نقاط التعاون الممكنة في محاربة الإرهاب أو في قضايا الطاقة، ولكنها في الوقت ذاته تفرض ضغوطًا اقتصادية على موسكو، بما في ذلك العقوبات على الأفراد والقطاعات الحيوية. هذا التوازن بين الانفتاح التكتيكي والضغط الاستراتيجي أظهر أن المقاربة الأمريكية يمكن أن تكون أكثر تنوعًا ومرونة، لكنها تبقى متسقة مع الهدف الأسمى في الحفاظ على الهيمنة والنفوذ الأمريكي على مستوى العالم.
يوضح الواقع هذا التباين بوضوح في الأزمة الأوكرانية، حيث لجأت روسيا إلى التدخل العسكري المباشر لتعزيز نفوذها الإقليمي، بينما اختارت الولايات المتحدة مع إدارة ترامب الثانية دعم أوكرانيا دبلوماسيًا مع تقليل التدخل المباشر للحفاظ على التوازن مع موسكو وإبقاء الباب مفتوحًا للتفاوض في ملفات أخرى مثل سوريا والطاقة.
في الشرق الأوسط، دعمت روسيا سوريا وإيران استراتيجيًا، بينما اعتمدت أمريكا على مزيج من التدخل العسكري المحدود والعقوبات والدبلوماسية لتحقيق توازن بين التحالفات الإقليمية والمصالح الاستراتيجية، واستثمرت المعارضة لمواجهة روسيا بإزالة النظام السوري الحليف الرئيس لروسيا عبر استراتيجية متوسطة المدى وأقل كلفة اقتصادية.
في المجال السيبراني والإعلامي، لجأت روسيا إلى أساليب دقيقة لتشكيل الرأي العام والتأثير على الخصوم، بينما عملت أمريكا على حماية النظام الرقمي والاقتصادي العالمي ووضع قواعد تحد من نفوذ الخصوم الاستراتيجي.
يعكس كلا النموذجين فهمًا عميقًا للطبيعة البشرية والديناميكيات الدولية، لكنهما يختلفان في الوسائل والمقاييس. تعتمد القوة الأمريكية على التوسع ضمن النظام الدولي القائم، بينما تركز القوة الروسية على إعادة تشكيل التوازنات في مناطق محددة بطرق مباشرة وغير تقليدية. هذا التباين ليس اختلافًا في الأسلوب بقدر ما هو انعكاس لطبيعة التحديات التي تواجه كل دولة وطبيعة رؤيتها للمصالح الاستراتيجية والأمن القومي.
إن السياسة الأمريكية والسياسة الروسية ليستا قوتين متقابلتين على الدوام، وإنما هما تعبيران عن فلسفتين مختلفتين للتعامل مع الواقع الدولي. الأولى تعمل ضمن النظام وتسعى لتعزيزه من خلال شبكة من التحالفات والأدوات المتنوعة، والثانية تعمل على تعديل التوازنات وفق مصالحها الاستراتيجية والأمنية.
إن فهم هذا التباين بعقلانية وتحليل دقيق لدوافع كل طرف وأدواته، خاصة في ظل انعطافات مهمة في أمريكا مع إدارة ترامب الثانية، سيوفر رؤية معمقة للتوازنات الدولية الحالية والمستقبلية ويتيح تقديرًا أكثر دقة لتفاعلات القوى الكبرى في عالم معقد وغير متوقع.
إن فهم السياسة الأمريكية والروسية لا يكتمل دون النظر إلى التوزيع الجغرافي للمصالح، لا سيما وقد أصبحت مناطق النفوذ التقليدية محورًا لصراع استراتيجي يتجاوز الحدود المباشرة لكل قوة. ففي أوروبا الشرقية، تمثل أوكرانيا نقطة محورية تراها روسيا منطقة حيوية لأمنها القومي وامتدادًا طبيعيًا لنفوذها التاريخي، بينما تراها الولايات المتحدة معيارًا لاختبار التزامات الحلفاء الأوروبيين وقدرتها على الحفاظ على استقرار النظام الأوروبي.
وقد اختارت إدارة ترامب الثانية في هذا الملف نهجًا متوازنًا مع محاولة فتح قنوات تفاوض محددة بما يعكس استراتيجيات الضغط المرن من فرض قيود على روسيا عند الحاجة مع ترك مساحة للتعاون التكتيكي في ملفات أخرى.
في الشرق الأوسط، يمثل النفوذ الروسي في سوريا وإيران مؤشرًا على سياسة جديدة تعتمد على تأمين خطوط النفوذ وحماية مصالح استراتيجية بعيدًا عن المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة.
وهنا نرى أن الولايات المتحدة، خلال نفس الفترة كانت تركز على حماية حلفائها في المنطقة وضبط التوازن الإقليمي عبر أدوات اقتصادية وسياسية وعسكرية محدودة مع تجنب الانخراط في حرب مباشرة غير محسوبة النتائج.
هذا التباين بين النهجين يعكس فهم كل دولة للطبيعة المعقدة للصراعات الإقليمية، إذ أن القوة الصلبة وحدها لا تكفي وإنما يجب توظيف النفوذ السياسي والدبلوماسي بشكل استراتيجي.
أما على صعيد الطاقة والاقتصاد، فقد أصبحت موسكو لاعبًا حيويًا عبر السيطرة على الغاز والنفط، وهو ما يمنحها قدرة على الضغط الجيوسياسي، خصوصًا على أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية، بينما تعتمد واشنطن على شبكة اقتصادية عالمية مرنة تسمح بتوزيع النفوذ بطريقة متعددة الأطراف مع الحفاظ على أدوات العقوبات الاقتصادية والقيود المالية كوسائل للضغط.
وحاولت إدارة ترامب الثانية، من هذا المنطلق موازنة العلاقة بين السوق والطاقة والنفوذ الجيوسياسي مع تعزيز الإنتاج الأمريكي للطاقة وتقليل الاعتماد على إمدادات خارجية مما أتاح لها هامش مناورة أكبر في مواجهة روسيا.
كما إن التوازن النووي يشكل محورًا آخر لفهم المقاربتين الاستراتيجيتين. القوة النووية الأمريكية والروسية رغم أنها أداة ردع فإنها تمثل أيضا جزءا من لعبة النفوذ الدولي، وتعمل الولايات المتحدة على تحديث ترسانتها النووية وضمان التفوق التكنولوجي في منظومات الصواريخ والدفاع بينما تعتمد روسيا على استراتيجية متقدمة توازن بين الردع التقليدي والنووي مع إبراز قدرتها على التأثير في مناطق النزاع دون الانخراط في صراع نووي شامل.
ولمواكبة سباق التسلح ركزت إدارة ترامب الثانية على تعزيز الردع النووي والتشدد في مراقبة الاتفاقات الدولية المتعلقة بالأسلحة مع استخدام هذه المعايير كورقة ضغط دبلوماسي ضد موسكو.
وفي المجال السيبراني والإعلامي تكشف المقاربتان اختلافا في استخدام الأدوات غير التقليدية ، إذ تركز روسيا على التأثير النفسي والرقمي لزعزعة استقرار خصومها، بينما أضافت إدارة ترامب الثانية بعدا تكتيكيا من خلال التركيز على العقوبات الرقمية والحماية التكنولوجية للقطاع الاقتصادي والاستراتيجي مع إبقاء إمكانية الحوار محدودا مع روسيا في ملفات مشتركة.
عند النظر إلى المستقبل، يبدو أن النزاع بين النموذجين لن يكون قائما على المواجهة المباشرة فحسب وإنما تسبقه إدارة التوازنات العالمية فكل طرف يسعى لتحقيق نفوذه ضمن حدود معينة مع مراقبة تحركات الآخر لتفادي الانزلاق إلى صراع شامل.
وتستمر السياسة الأمريكية حتى مع انعطافات إدارة ترامب الثانية في العمل ضمن إطار متعدد الأطراف مستفيدة من التحالفات والأدوات المتنوعة بينما تركز روسيا على تعديل التوازنات في مناطق محددة بما يخدم مصالحها الاستراتيجية والأمنية و مع استخدام القوة والضغط غير المباشر لإعادة رسم خطوط النفوذ.
ويمكن القول إن القوة لا تقاس فقط بما تمتلكه الدولة من أدوات بل بكيفية توظيفها ضمن منظومة العلاقات الدولية المعقدة والمتشابكة فالولايات المتحدة والروسية يمثلان نموذجين متناقضين ولكن مترابطين لفهم السياسة الدولية الحديثة فالأولى تعمل ضمن النظام لتعزيزه وحماية مصالحها، والثانية تعمل على تعديل التوازنات بما يضمن مصالحها الحيوية ويعيد الاعتبار لنفوذها التاريخي .
إن قراءة هذا التباين بعقلانية مع مراعاة تحولات إدارة ترامب الثانية يوفر رؤية معمقة للتوازنات الدولية الحالية والمستقبلية ويتيح تقديرا أكثر دقة لتفاعلات القوى الكبرى في عالم يتسم بالتعقيد واللايقين.
في الختام يظهر بوضوح أن السياسة الأمريكية والروسية تعبيران عن فلسفتين مختلفتين للتعامل مع الواقع الدولي:
– الأولى تمثل استراتيجية شاملة متعددة الأبعاد تسعى لتعزيز النظام الدولي وحماية النفوذ العالمي.
-الثانية تعتمد على ضبط التوازنات الإقليمية وتحقيق الأمن القومي عبر أدوات مركزة وقوية.
أخيرا إن فهم هذا التباين بدقة هو المفتاح لأي تحليل ناجح للتفاعلات المستقبلية بين القوى الكبرى لأنه يوفر قاعدة صلبة لتوقع النتائج الاستراتيجية في عالم تتسارع فيه التغيرات وتتعقد فيه العلاقات بين الدول.