يشهد سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024 بداية مرحلة تحول تاريخي في سوريا، تستلزم إعادة بناء شاملة لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية. فالجيش السوري السابق، الذي عانى من انقسامات عميقة وولاءات طائفية وسياسية، لم يعد قادرًا على تلبية متطلبات الأمن الوطني والحفاظ على سيادة الدولة. لذا، تبرز الحاجة الملحة لإعادة هيكلة جذرية تهدف إلى تشكيل جيش سوري جديد يكون وطنيًا بحق، محترفًا ومستقلًا عن أي توجهات طائفية أو سياسية.
تعتبر عملية إعادة الهيكلة هذه معقدة ومتعددة الأوجه، وتتطلب نهجًا استراتيجيًا يجمع بين الإصلاحات الإدارية والعسكرية والاجتماعية. والهدف الأسمى هو بناء جيش يمثل جميع مكونات الشعب السوري، ويعمل على حماية الوطن والمواطنين، ويستعيد ثقة السوريين به كمؤسسة وطنية عليا.
الركائز الأساسية لإعادة هيكلة الجيش السوري
تعتمد عملية إعادة هيكلة الجيش السوري الجديد على مجموعة من الركائز الأساسية التي تضمن بناء مؤسسة عسكرية قوية ومستقرة وذات ولاء وطني خالص، وتتضمن هذه الركائز جوانب إدارية وتشغيلية وتدريبية وهي:
أولًا: تفكيك الماضي وبناء الحاضر من خلال:
- حل الجيش القديم وجمع الأسلحة: كانت الخطوة الأولى والحاسمة بعد سقوط النظام هي حل الجيش النظامي القديم وتفكيك هياكله، وجمع الأسلحة من الضباط والعناصر السابقين عبر مراكز تسوية في المحافظات بهدف السيطرة على انتشار السلاح وتجنب الفوضى. تهدف هذه العملية إلى محو أي بقايا للولاءات السابقة وضمان أن الجيش الجديد يبدأ بأسس نظيفة ووطنية.
- تعيينات وترقيات عسكرية جديدة: لضمان قيادة جديدة ذات رؤية وطنية، يجب إجراء تعيينات وترقيات واسعة في القيادة العسكرية تشمل تعيين وزير دفاع جديد ورئيس هيئة أركان من خلفية عسكرية أكاديمية من الضباط المنشقين عن جيش الأسد، بالإضافة إلى ترقية مئات الضباط والقادة الثوريين. والهدف من هذه الخطوة بناء هرمية عسكرية جديدة تعزز المهنية والولاء للدولة وليس للأفراد أو الأنظمة.
ثانيًا: توحيد الصفوف وتطوير القدرات من خلال:
- دمج الفصائل المسلحة المختلفة: تُعد عملية دمج الفصائل المسلحة المتعددة التي نشأت خلال الحرب الأهلية من أصعب التحديات، إذ يتطلب هذا دمج جميع هذه الفصائل تحت مظلة وزارة الدفاع الجديدة مع التركيز على تنظيمها ضمن هيكل عسكري موحد يتبع الدولة وليس جماعات أو أحزاب. وتشمل هذه الجهود السعي للتوافق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وفصائل محلية أخرى للانضمام إلى الجيش الوطني.
- إعادة تشكيل المناطق والوحدات العسكرية: إعادة تقسيم المناطق العسكرية والألوية والفرق في إطار الهيكل العسكري الجديد بما يتناسب مع التوزيع الجغرافي والسياسي لسوريا بعد سقوط النظام. يجب أن يشمل ذلك تشكيل فرق عسكرية جديدة في مدن رئيسية مثل دمشق وحماة وحمص ودرعا وإدلب وتدمر، بالإضافة إلى إعادة هيكلة القوة الجوية والدفاع الجوي لضمان الفاعلية والكفاءة.
ثالثًا: بناء جيش محترف ووطني من خلال:
- إلغاء التجنيد الإجباري واستقطاب المتطوعين الأكفاء: لضمان تأسيس جيش محترف، يتم استبدال نظام التجنيد الإجباري بسياسة التطوع، حيث يجب وضع شروط صارمة للقبول بناءً على المعايير العقلية والبدنية والمهارات التقنية. ويهدف هذا التوجه إلى استقطاب الكفاءات الشابة وتطوير الكفاءات البشرية والقيادية مع التركيز على بناء جيش يقوم على الوعي بالمسؤولية الوطنية والانتماء للقضية السورية.
- تحديث المناهج والتدريب العسكري: يعتبر تحديث الأكاديميات العسكرية وإدخال مناهج تعليمية عصرية مع برامج تدريب مكثفة أمرًا حيويًا. والهدف هو بناء قيادة وطنية ذات رؤية إستراتيجية ووعي وطني بعيد عن الأيديولوجيات السابقة. ويشمل ذلك تبني تكنولوجيا ورقمنة في التدريب والقيادة واللوجستيات لزيادة الفاعلية.
- تفكيك الولاءات الطائفية والسياسية: يتم وضع قوانين صارمة لضمان أن الجيش مؤسسة وطنية مستقلة لا تتبع أي حزب أو طائفة، كما يجب معالجة الانقسامات الطائفية والسياسية التي كانت عائقًا رئيسيًا في الجيش القديم. وهذا يجب أن يكون أولوية قصوى من خلال إنشاء دائرة للتوجيه المعنوي تعمل على تطوير عقيدة قتالية جديدة تقوم على مبادئ وطنية غير دينية أو طائفية.
برنامج عملي لإعادة الهيكلة: مراحل وتحديات
أولًا: المراحل:
تتضمن عملية إعادة الهيكلة برنامجًا متعدد المراحل يواجه تحديات كبيرة تتطلب إرادة سياسية قوية ودعمًا مستمرًا.
- المراحل الرئيسية لبرنامج إعادة الهيكلة: تم تصميم برنامج إعادة الهيكلة على مراحل متتالية لضمان تنفيذ منظم وفعال:
المرحلة الأولى (0-6 أشهر): التركيز على حل الجيش القديم وتشكيل لجنة انتقالية للتسوية، والبدء في دمج الفصائل الرئيسية وتقديم تدريب أولي لـ 50 ألف متطوع، وإنشاء وزارة دفاع جديدة تركز على الشفافية والمساءلة.
المرحلة الثانية (6-18 شهرًا): صياغة العقيدة العسكرية الوطنية وتوسيع التدريب القتالي ليشمل بعض الدول المتقدمة في هذا المجال، ومعالجة قضايا المقاتلين السابقين عبر لجان خاصة، وإطلاق حملات توعية لتعزيز صورة الجيش كمؤسسة وطنية حامية للمواطنين.
المرحلة الثالثة (18 شهرًا فما فوق): الوصول إلى القوة الكاملة للجيش مع تكامل كامل للقطاع الأمني، مع الأخذ بيعين الاعتبار أنه سيتم فرض مراقبة دولية لضمان الالتزام بالمعايير الديمقراطية وتقييم دوري للكفاءة.
ثانيًا: التحديات الرئيسية التي تواجه إعادة الهيكلة:
على الرغم من الجهود المبذولة، تواجه عملية إعادة الهيكلة تحديات جسيمة:
أ- صعوبة دمج الفصائل المسلحة: تباين الولاءات والمصالح بين الفصائل المختلفة يشكل عائقًا كبيرًا أمام دمجها في هيكل موحد.
ب- الضغط الخارجي والإقليمي: بعض الدول قد تعترض على تسليح الجيش الجديد أو تحاول التأثير على تركيبته.
ت- تغيير الثقافة العسكرية: التحول من ثقافة عسكرية قائمة على الولاءات الشخصية والطائفية إلى ثقافة مهنية وطنية يتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين.
ث- بناء ثقة السوريين: استعادة ثقة الشعب في المؤسسة العسكرية كحامية للدولة وليس أداة للسلطة هو تحدٍ أساسي.
ج- نقص الموارد البشرية والعتاد: الحاجة إلى تجنيد وتدريب أعداد كبيرة من المقاتلين وتوفير المعدات اللازمة.
دور الدعم الدولي والعقيدة القتالية الجديدة
لا يمكن لعملية إعادة هيكلة الجيش السوري وبلورة عقيدة قتالية وطنية جديدة أن تنجح بمعزل عن الدعم الدولي الموجه.
أولًا: التعاون الدولي والإقليمي من خلال:
– دعم وتدريب وتحالفات دولية: تلعب الاتفاقيات مع الدول الصديقة دورًا محوريًا في عملية إعادة البناء. على سبيل المثال، وقعت تركيا مذكرة تفاهم مع وزارة الدفاع السورية لتقديم برامج تدريبية ودعم تقني واستشارات. هذا التعاون يساهم في بناء القدرات الدفاعية السورية وتعزيز الاحترافية في الجيش الجديد.
– الاستفادة من الخبرات الدولية: يجب أن تسعى سوريا للاستفادة من تجارب دول أخرى في إعادة بناء جيوشها بعد فترات صراع أو انهيار. ويمكن أن توفر تجارب دول مثل رواندا في إعادة بناء جيش قوي بعد الإبادة الجماعية هناك أو تجربة الصومال في دمج الفصائل المتنافسة دروسًا قيمة لسوريا. وهذا يتضمن التعاون في مجالات التدريب والاستشارات اللوجستية وتوفير المعدات العسكرية الحديثة.
ثانيًا: الأبعاد الإقليمية والدولية لإعادة البناء:
تتأثر عملية إعادة هيكلة الجيش السوري وتؤثر في الديناميكيات الإقليمية والدولية، فالدعم من الدول المجاورة والحلفاء الدوليين أمر حيوي لنجاح هذه العملية، وكذلك التعامل مع القوى التي قد تسعى لعرقلتها.
ثالثًا: تأثير إعادة الهيكلة على الاستقرار الإقليمي:
بناء جيش سوري وطني ومحترف يمكن أن يسهم بشكل كبير في استقرار المنطقة، فالجيش القوي والموحد القادر على حماية الحدود ومواجهة التهديدات الإرهابية سيقلل من التدخلات الخارجية ويسهم في الأمن الإقليمي، وعلى النقيض فإن فشل هذه العملية قد يؤدي إلى استمرار الفوضى وتفاقم الصراعات.
إن إعادة هيكلة الجيش السوري بعد سقوط نظام الأسد تمثل تحديًا تاريخيًا وفرصة سانحة لبناء مؤسسة عسكرية حديثة ووطنية بالتركيز على الاحترافية وإلغاء التجنيد الإجباري ودمج الفصائل وتطوير عقيدة قتالية جامعة. ويمكن لسوريا أن تبني جيشًا قويًا وموثوقًا به، على الرغم من التحديات الهائلة، فالإرادة السياسية والدعم الدولي مع التزام داخلي قوي يمكن أن يمهدا الطريق لجيش يحمي السيادة الوطنية ويسهم في استقرار سوريا والمنطقة على المدى الطويل.