شبكة أخبار سوريا والعالم/ دمشق- عبد قتلان
تمتلك فنزويلا احتياطيات نفطية هائلة تقدر بنحو 303 مليار برميل، لكنها تعاني من أزمة داخلية أدت إلى تدهور الإنتاج والاقتصاد، مما جعلها عرضة لضغوط خارجية. على الرغم من عدم وجود احتلال عسكري تقليدي من قبل الولايات المتحدة، إلا أن سياساتها المتمثلة في العقوبات المالية والنفطية، والضغوط الدبلوماسية، ودعم المعارضين السياسيين، ساهمت في تقييد قدرة فنزويلا على الاستفادة الكاملة من مواردها. في المقابل، تقدم الولايات المتحدة مبررات تتعلق بالأمن الإقليمي والديمقراطية.
من الغنى إلى الانهيار
كانت فنزويلا لعقود مضت من أغنى دول أمريكا الجنوبية، مع اعتماد شبه كامل على النفط الذي يشكل أكثر من 90% من صادراتها ويمول الجزء الأكبر من ميزانيتها. ومع تراجع أسعار النفط العالمية وسوء الإدارة الداخلية، بدأ الاقتصاد في الانهيار تدريجيًا.
بين عامي 2013 و2018، انخفض الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 234 مليار دولار إلى أقل من 100 مليار، وتراجعت قيمة العملة الفنزويلية بشكل حاد، ووصل التضخم إلى مستويات فلكية تجاوزت مليون بالمئة سنويًا وفقًا لبعض التقديرات. في تلك المرحلة، فقدت الطبقة الوسطى مدخراتها، وانهارت القدرة الشرائية للمواطنين، وتحول النفط من مصدر للثراء إلى عبء سياسي واقتصادي.
- العقوبات الأمريكية: سلاح بلا جيوش
مع تصاعد الأزمة، فرضت الولايات المتحدة سلسلة عقوبات على حكومة الرئيس نيكولاس مادورو، شملت شركة النفط الوطنية (PDVSA) ومنعت التعامل المالي معها في الأسواق الدولية. توسعت العقوبات لاحقًا لتشمل الذهب والتحويلات البنكية وحتى صادرات النفط إلى بعض الدول.
بررت الولايات المتحدة إجراءاتها بأنها خطوة لدعم الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، بينما اعتبرت الحكومة الفنزويلية ذلك محاولة لتجويع الشعب وإسقاط النظام بالقوة الاقتصادية. ومع تضييق الخناق المالي، لم تعد فنزويلا قادرة على الوصول إلى أسواق التمويل العالمية، مما عمق الانكماش وزاد البطالة التي تجاوزت 30% في بعض السنوات.
لم تقتصر الإجراءات على الجانب الاقتصادي، بل كانت وسيلة ضغط متعددة الأبعاد. فقد حدت العقوبات من قدرة كاراكاس على بيع النفط، وأجبرت بعض الشركات الأجنبية على مغادرة السوق، مما تسبب في تراجع الإنتاج إلى نحو 700 ألف برميل يوميًا بعد أن كان يتجاوز 3 ملايين في أوائل الألفية.
هل الهدف هو النفط أو مكافحة المخدرات؟
قد يبدو الهدف من الضغط الأمريكي هو النفط الفنزويلي، خاصة وأن البلاد تمتلك أكبر احتياطي عالمي. لكن المسألة أعقد من مجرد الطمع بالثروة.
لا تحتاج الولايات المتحدة إلى احتلال فنزويلا لتأمين نفطها، فهي تتمتع باكتفاء ذاتي نسبيًا بفضل النفط الصخري. ومع ذلك، تظل فنزويلا موقعًا استراتيجيًا في معركة النفوذ الدولي، خاصة مع دخول روسيا والصين وإيران كشركاء اقتصاديين وسياسيين لها. لذلك، ترى واشنطن أن ترك فنزويلا خارج نفوذها يشكل خطرًا على ميزان القوى في نصف الكرة الغربي.
من جهة أخرى، تستفيد الولايات المتحدة من حالة الفوضى، حيث تؤدي العقوبات إلى تقييد إمدادات النفط الفنزويلي في السوق، مما يرفع الأسعار بشكل غير مباشر ويمنح شركات الطاقة الأمريكية قدرة أكبر على التحكم في العرض العالمي.
في خضم هذا الصراع، يجد الشعب الفنزويلي نفسه الخاسر الأكبر. فالعقوبات خنقت الاقتصاد، والحكومة فشلت في تنفيذ إصلاحات فعالة. هاجر ملايين المواطنين، وانخفض دخل الفرد من نحو 7800 دولار إلى ما يقارب 3300 فقط.
تشير المعطيات إلى أن ما يجري ليس احتلالًا بالمعنى العسكري، بل هو احتلال اقتصادي ناعم – نفوذ يمارس من بعيد، دون دبابة واحدة، لكنه أكثر تأثيرًا في حياة الناس من أي غزو تقليدي. فالولايات المتحدة لا تحتاج إلى رفع علمها على كاراكاس لتفرض سيطرتها، بل يكفي أن تتحكم في الدولار، في الأسواق، وفي القنوات التي يمر منها النفط والتمويل.
في النهاية، لا يمكن القول إن أمريكا احتلت فنزويلا، لكنها بالتأكيد تمسك بخيوط كثيرة من مصيرها. وفي المقابل، لا يمكن إعفاء النظام الفنزويلي من مسؤوليته عن الانهيار الداخلي وسوء الإدارة.
فنزويلا اليوم ليست ضحية أمريكا وحدها، بل ضحية مزيج من الفساد، الاعتماد المفرط على النفط، وتوازنات القوى العالمية.
والاحتلال لم يعد يحتاج إلى جيوش، بل يكفي أن تملك القدرة على خنق اقتصاد، لتملك القرار السياسي معه.
تصاعد التوتر العسكري الأمريكي:
تصاعد التوتر العسكري الأمريكي في منطقة الكاريبي ضد فنزويلا منذ نوفمبر 2023، حيث أُجريت عمليات أمريكية مستمرة تستهدف قوارب صغيرة يشتبه بنقلها لمخدرات من فنزويلا، مما أدى إلى مقتل 33 شخصًا على الأقل. هذا التصعيد العسكري جاء بالرغم من اعتراضات الأدميرال ألفينهلسي قائد القيادة الجنوبية الأمريكية، الذي شهد خلافاً حاداً مع وزير الدفاع أدى لاحقاً إلى استقالته في سبتمبر 2023. وترافق هذا التصعيد مع زيادة وجود عسكري شامل في منطقة الكاريبي، إذ يتمركز عشرات السفن الحربية، المروحيات، الطائرات من دون طيار، والمئات من الجنود، إلى جانب تحرك حاملة الطائرات جيرالد فورد، الأحدث والأكبر من نوعها، لإدارة عمليات عسكرية مركزة ضد فنزويلا. ووصف هذا التحشيد العسكري بأنه الأكبر خلال عقود، في سياق يخيم عليه الهدف الأمريكي المعلن بمحاربة تهريب المخدرات، لكن الواقع يشير إلى احتمال تركزه ضد النظام الفنزويلي ذاته.
أبعاد مكافحة المخدرات الأمريكيّة الحقيقة مقابل الادعاءات:
فنزويلا ليست فاعلاً رئيسياً في تهريب الكوكايين والفنتانيل، حيث تتصدر كولومبيا وبيرو وبوليفيا إنتاج الكوكايين، ويُمرر معظم المخدرات عبر المحيط الهادئ أو جواً، مع دور محدود لفنزويلا. وأكدت بيانات وكالة مكافحة المخدرات الأمريكية أن إنتاج الفنتانيل يتركز بشكل كبير في المكسيك والصين باستخدام مواد مستوردة من الصين. رغم ذلك، تعتمد إدارة ترامب تصنيف عصابات تهريب المخدرات في أمريكا اللاتينية كمنظمات إرهابية، مما يقرب حملة مكافحة المخدرات من تعريف الحرب ضد الإرهاب. ويظل هذا التناقض بين الأهداف المعلنة والوقائع محل شكوك عميقة، حيث يرى محللون أن الهدف الحقيقي هو الضغط العسكري لزعزعة استقرار نظام مادورو بهدف الإطاحة به سياسيًا.
السياسات الأمريكية الداخلية وصراع الأجنحة حول فنزويلا:
يلعب ماركو روبيو، وزير الخارجية والمستشار الأمني الوطني، دوراً كبيراً كأحد أكثر المعارضين لنظام مادورو، مدفوعًا بخلفيته الكوبية واهتماماته السياسية في ولاية فلوريدا التي تضم جاليات كبيرة من أصول كوبية وفنزويلية. يقود روبيو حملة لتعزيز الضغوط العسكرية والسياسية لإجبار مادورو على التنحي، ويسعى لتحقيق هذا الهدف عبر مسارين: السعي لتغيير النظام دون حرب شاملة، ومحاولة بسط نفوذه داخل إدارة ترامب. رغم التفاؤل الأمريكي بحدوث انشقاقات داخل النظام الفنزويلي، إلا أن مادورو حافظ على قبضته على السلطة، مما يزيد من تعقيد الوضع ويثير تساؤلات حول جدوى التكتيكات الأمريكية الحالية.
المصالح الاقتصادية والدبلوماسية:
النفط والثروات الفنزويلية في قلب الصراع بين النظام الفنزويلي والإدارة الأمريكية الذي قاده المبعوث الخاص ريتشارد جورنال، حيث قدم مادورو عرضًا لتقديم حصص واسعة للشركات الأمريكية في مشاريع النفط والمعادن، وتغيير الوجهة النفطية من الصين نحو الولايات المتحدة بشروط تفضيلية. وقدرت الفرص الاستثمارية بأكثر من تريليون دولار، مما كشف أن الحركة الأمريكية تجاه فنزويلا ليست فقط سياسية أو أمنية بل اقتصادية واسعة، وأن هناك انقساماً أمريكياً بين السعي للحوار والحل الدبلوماسي، وبين جناح روبيو العسكري المتشدد. كما أن المعارضة الفنزويلية بقيادة ماريا كورينا ماتشادو تُقدم عرضًا مشابهًا لدعم الاستثمار الأمريكي مقابل دعم سياسي لتغيير النظام. ومع ازدياد الضغط العسكري، يبدو أن الولايات المتحدة تستعد لهجمات محددة تستهدف منشآت مرتبطة بإنتاج المخدرات، رغم عدم وجود أدلة قاطعة تؤكد ذلك.