فؤاد البطاينة
يتصاعد استخدام العدو للأقليات العرقية والطائفية وغيرها كأداة استراتيجية لتقويض الدول العربية وتفتيت شعوبها من الداخل، وذلك تحت ستار حماية حقوق الأقليات. ويهدف هذا الاستغلال إلى تحقيق هدف الانفصال في دول يتم اقتطاعها من الأم لتصبح تحت سيطرتهم. بغض النظر عن زيف ادعاءاتهم، فالأقليات موجودة في معظم دول العالم، ولو تم تعميم هذه المسرحية لانتشرت الفوضى في العالم.
يدرك العقل الاستعماري هذا الأمر، فالدول الكبرى التي أعادت هيكلة جغرافية دولنا في الحرب العالمية الأولى من خلال سايكوسبيكو، كانت تعلم بوجود أقليات عرقية وطائفية لديها، ولم تقم باقتطاع دول لها. إن اختلاق المستعمر للمشكلة وحلها لتحقيق أهدافه لم يأتِ استخفافًا بعقولنا، بل بناءً على ضعفنا وعمالة أنظمتنا وتشتت شعوبنا، وبالتالي عدم اعتبار لنا ولحجتنا وردود أفعالنا. فأمريكا نفسها دولة أقليات وتمييز عنصري يحكمها الأنجلوسكسوني المتحالف مع الصهيونية والروتشلدية تحت علم واحد. وأوروبا تعج بالأقليات، والمثل في سويسرا التي تتشكل من أربع قوميات وأربع لغات في دولة واحدة. فالعدو يدرك المنطق السليم ويطبقه على نفسه وليس على فريسته، وهو في التوحد والتعددية والتكاملية وليس في التجزئة والانفصالية.
التطبيع والأقليات
يشهد التاريخ بأن الأقليات في الأقطار العربية بمختلف أنواعها وأشكالها كانت مندمجة في الأكثرية، والأكثرية مندمجة فيها تحت مفهوم دولة الأمة، مع احترام الخصوصيات الثقافية. إلا أن هذه الأقليات أصبحت فيما بعد مقربة من الأنظمة الفاسدة ومحل استثمار واستخدام لها. أما بعد التطبيع، فقد أصبحت الأكثر رعاية وحظوة، مما يحمل خللًا عميقًا في بنية المجتمع يُبنى عليه فشل الدول بأكملها. وسبب هذه النقلة هو أن هذه الأنظمة التي بررت تطبيعها لشعوبها على أنه قائم على وعود أمريكية صهيونية بالخيرات والرفاه لبلدانها، وبتسوية سياسية عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية وشعبها، وقعت في فخ خيانتها ولم تحصل إلا على مزيد من الفشل والإفلاس والإحراج وسيرورة في تصفية القضية الفلسطينية، لتقع تحت الابتزاز في مطالب لا تنتهي على حساب دولها وشعوبها والقضية، إلى أن انبطحت، لتبدأ القصة.
هنا أربط مسألة تمادي الأقليات بانبطاح المطبعين وصعود التطبيع. حيث فتحت هذه الأنظمة المستضعفة أبواب بلدانها على وسعها للكيان المحتل ليخترق كل مرفق فيها وتصول أجهزته وتجول في عرض البلاد وطولها ووصلت للأقليات كصيد ثمين من خلال تجنيد وصنع قيادات وناشطين منها وصهينتها بكل الإغراءات. وفرض الكيان الصهيوني على الأنظمة المنبطحة حمايتها وإطلاق يدها من خارج القانون لتجهد في مهمة صهينة بعض الأقليات وسلخها عن وطنيتها وأوطانها ودولها بأجندته وشراكة مباشرة معه. حتى أصبحت قيادات ونشطاء هذه الأقليات تعقد المؤتمرات العلنية في تل أبيب.
قد يكون ما استفزني للكتابة بهذا الموضوع هو ما سمي بمؤتمر الأقليات السورية في تل أبيب، وسماع أصوات طائفية وإثنية من جنس هذه الأقليات متنقلة بالهوية الأردنية تبث خطابا متصهينا باسم الأقليات. ولا أفصل هنا بين النظام السوري والمؤتمرين فخلافات الطرفين هي بينهما وليست مع الكيان. ولكن أتحدث بما يخص الأردن مذكراً بأن المسؤولية فيما تفعله أو تتمنع عن فعله الحكومات تقع على عاتق النظام السياسي وقيادته لأنها حكوماته ومن صنعه وليست من صنع الشعب ولا تعبر عن ارادته. وفي هذا لدي ثلاث نقاط مترابطة.
ـ الأولى: رغم غياب الديمقراطية المأسسة في الأردن والتي تنتفي معها محذورات الأكثرية والأقلية لصالح سيادة مفهوم المواطنة، الا أننا وعبر تاريخ الدولة لم ننخرط كشعب على الأقل في أي من صور التمييز، والدولة والأكثرية معاً يحترمون ويدعمون خصوصيات وثقافات الأقليات من أي نوع، سيما وأن طبيعة الأكثرية متجانسة تماماً وثقافتها تحترم ثقافة الأخر وتؤاخيه، فكيف إذا كان هذا الأخر مواطناً والأردن وطنه. ففي الأردن اعتدنا على أن تشكل الأقليات والأكثرية بمجموعها النسيج الوطني الأردني الواحد والسليم للدولة دون أية شوائب.
ـ الثانية: أن هذا النسيج الوطني الأردني تحده ضوابط أمام التحديات الخارجية والداخلية، تخص أمن واستقرار الدولة وسلامة الوطن والنظام العام، وعدم تمدد أي طرف في النسيج الى أجندة خارجية أو غير مشتركة، والإلتزام بالقضية الفلسطينية كقضية وطنية مصيرية للأردن قبل أن تكون قومية. فالصهيونية التي يمتد مخططها المعلن الى الأردن وطناً وشعبا ونظاما تفتك يمينا وشمالا وانتفض العالم على وحشية جرائمها الواعية بحق أهلنا في غزة وفلسطين. ومن الإجرام بحق الشعب الأردني ونسيجه الواحد أن تخرج منه فئة مهما قل عددها بأجندة خارجية صهيونية وتتعاطف أو تتعاون مع كيان الإحتلال.
ـ الثالثة والأهم: حيث أننا شهدنا خروج فئة من أقلية أردنية كريمة عن ضوابط النسيج الوطني الأردني، وشهدنا استمراره بشكل أو أخر، فإن في هذا مستجداً دخيلاً يلوح لأول مرة في الأردن كسابقة أمنية مفاهيمية قيمية خطيرة وجب اجتثاثها من جذورها. فمن شأن المرور عنها المساس بالثوابت الوطنية الأردنية المستقرة وكسرها، وتهديد لوحدتنا الوطنية وسلامة وحدة أراضينا واستقرارنا كشعب واحد بأجندة سياسية وطنية واحدة مقاومة للصهيونية المحتلة لفلسطين ومشروعها. فالنسيج الوطني الأردني لا يمكن أن يكون منه جزء شريك من صراعات داخلية لأي نسيج أخر في أي دولة أخرى. ولا أن يتمكن الكيان الصهيوني المجرم من اختراق أقلية أردنية وينصب منها عليها قادة يوجهونها لأجندات صهيونية معادية في خدمة الكيان المحتل.
وفي سياق مشابه في وحدة المفاهيم فإني ما كنت لأفترض أن تتعامل المقاومة الفلسطينية مع عربي أو فلسطيني يخدم في جيش الإحتلال، كأسير. فهذا أمر جلل في عمقه وبدعة ضالة. بل يجب معاملة مثل هؤلاء كخونة من أعلى الدرجات، وتحت ولايتها القضائية والسياسية، وليس تحت ولاية العدو. بل إني إذ أثمن عدم تدخل المقاومة بالشأن الداخلي للدول العربية وخياناتها، لأعجز عن إيجاد حكمة ومنطقية في اعترافها بسلطة أوسلو أو تعاملها معها وهي تُشكل جزءا من الإحتلال وجهازه القمعي.