تعتبر الكبّة في مدينة حلب، بحسب عنب بلدي – محمد ديب بظت، أكثر من مجرد طبق يقدم على المائدة، فهي جزء أصيل من المطبخ الحلبي وذاكرة أهلها، سواء في الأسواق القديمة أو داخل البيوت. تحمل كل لقمة عبق الماضي ودفء الذكريات، وتربط الحلبيين بتاريخهم، وتعيد للمغتربين ذكريات الأعياد والولائم، مؤكدة أن الكبّة الحلبية هي طقس يومي ومناسبة خاصة في آن واحد، حيث تتلاقى الذاكرة اليومية مع لحظات الاحتفال.
تحتل الكبّة مكانة مميزة في الثقافة الحلبية، فهي ليست مجرد وجبة، بل هي تقليد اجتماعي متوارث، إذ تحضر في المناسبات والأعياد، وتجمع العائلات حول مائدة واحدة.
رمز للمهارة وتواصل الأجيال
يعتبر تحضير الكبّة الحلبية عملًا جماعيًا تشارك فيه الجدات والأمهات والبنات، في مشهد يعكس روح التعاون والتواصل بين الأجيال. فالكبّة في البيوت الحلبية هي رمز للمهارة والإتقان، إذ تتطلب وقتًا وجهدًا ومهارة خاصة في إعداد البرغل والعجن والحشو والتشكيل. غالبًا ما تحضر بكميات كبيرة لتوزيعها بين الأقارب والجيران.
هدى مصري، سيدة ستينية من حي المعادي، صرحت لعنب بلدي، أن الكبّة كانت جزءًا لا يتجزأ من روح المناسبات في حلب. وأثناء التحضير، يتشارك الجميع في العمل، من غسل البرغل إلى فرم اللحم وتشكيل الأقراص. بالنسبة لها، كانت الكبّة مساحة للتواصل بين النساء وتعليم الأجيال الصغيرة، حيث تتناقل الجدات أسرار الطهو ودقة المذاق.
أكثر من 58 نوعًا
العلامة خير الدين الأسدي، وثّق في موسوعته الشهيرة “موسوعة حلب المقارنة” ما يقارب 58 نوعًا من الكبّة الحلبية، مع توضيح أسمائها وطرق تحضيرها، مما يعكس تنوع المطبخ الحلبي وغناه. ارتبطت الكبّة باسم المدينة حتى أصبحت جزءًا من هويتها، واشتهرت حلب بالمقولة المعروفة “أم المحاشي والكبب”.
لم يكتفِ الأسدي بتعداد الأنواع، بل ربط كل صنف بسياقه الاجتماعي، سواء كان يقدم في الولائم العائلية أو المناسبات الدينية أو الأسواق الشعبية. بعض الأنواع ارتبطت بالاحتفالات الكبيرة، مثل “الكبّة المشوية” أو “السفرجلية” أو “اللبنية”، بينما ارتبطت أنواع أخرى بالحياة اليومية البسيطة التي تعكس إيقاع المدينة وروتين أهلها.
يتضح من خلال الموسوعة أن الكبّة لم تكن مجرد طعام، بل أصبحت مكونًا ثقافيًا واجتماعيًا يعبر عن روح المدينة ومهارة نسائها في الطهو. هذا التنوع بين الكبّة النيئة والمقلية والمسلوقة والمشوية يعكس مدى عمق الموروث الغذائي، وتعدد الطقوس التي شكلت ذاكرة حلب الجماعية.
تنوع الكبّة وصلته بالمطبخ الحلبي
يعكس تنوع الكبّة بشكل مباشر غنى المطبخ الحلبي وتنوع مواده وتوابله، فكل نوع يحمل بصمة مختلفة تعكس ذوق العائلات وأسلوبها في الطبخ. فالكبّة المشوية تحضر في النزهات، والمقلية في الأعياد، وكبّة الصينية في الأيام العادية كوجبة سريعة التحضير.
أوضح الشيف يزن قمري، أحد الطهاة العاملين في مطاعم “حي الفيض”، أن الكبّة ليست مجرد أكلة، بل هي فن حلبي متكامل. ووفقًا لحديثه لعنب بلدي، فكل نوع منها يحمل حكاية تعود إلى زمن مختلف، وتجربة تذكّر الزائر بطفولته وروابطه الاجتماعية. بالنسبة له، فإن الكبّة تجسد ذاكرة المطبخ الحلبي، لأنها تجمع بين الطعم والرمز، وتعيد للمغتربين شعورهم بالانتماء من خلال نكهات يعرفونها منذ الطفولة.
“السقاقية”.. طعام العمال
من بين الأنواع المتعددة، تبرز “الكبّة السقاقية” كرمز للأكل الشعبي في حلب، إذ تتميز بوجود “حد حاد” على أطرافها يجعل شكلها مميزًا، وغالبًا ما تباع على “البسطات” في الأسواق إلى جانب اللبن الطازج، وخصوصًا في مناطق مثل باب جنين.
تعد هذه الكبّة من الأكلات التي يقبل عليها العمال وأصحاب الدخل المحدود نظرًا إلى سعرها المقبول وسهولة تناولها، حتى أصبحت جزءًا من هوية الأسواق الشعبية.
خالد مرعي، عامل نجارة في منطقة القلعة، ذكر لعنب بلدي، أن “الكبّة السقاقية” بالنسبة للعمال وجبة شبه يومية، فهي سريعة ومشبعة، وتحمل طعم المدينة وروائح أسواقها. وأضاف أن رائحة “الحد” المميزة في هذا النوع تعيد الذاكرة إلى بيوت الطين القديمة وبساطة المعيشة.
هذا النوع يعكس كيف يمتد المطبخ الحلبي من الولائم الفاخرة إلى حياة الناس اليومية، ليجسد تواصل المدينة بين طبقاتها الاجتماعية المختلفة من خلال أكلة واحدة محمّلة بالذاكرة والهوية.
المغتربون والمطاعم التقليدية
أعادت عودة المغتربين خلال الأشهر الأخيرة الحياة إلى المطاعم التي تقدم الأكلات الشرقية التقليدية، وعلى رأسها الكبّة، فبالنسبة للمغترب، لم تعد هذه المطاعم مكانًا للطعام فقط، بل فضاء يستعيدون فيه ذاكرتهم الجمعية وارتباطهم بالمدينة.
يرى كثير من المغتربين أن الكبّة الحلبية تحمل طعم البيوت القديمة ومذاق الأعياد، وتعيد إليهم شعور الانتماء الذي فقدوه في الغربة. إبراهيم صدور، مغترب من مدينة حلب يقيم في ألمانيا منذ أكثر من عشر سنوات، يمثل نموذجًا لهذا الحنين.
وقال إبراهيم لعنب بلدي، إن الكبة ليست مجرد طبق بل رمز للبيت الأول، تختصر تفاصيل المدينة وأهلها. عند عودته إلى حلب، يحرص إبراهيم على زيارة المطاعم الشعبية في باب الفرج والجميلية لتناول الكبّة المشوية على الفحم، معتبرًا أن نكهتها لا يمكن تكرارها حتى باستخدام نفس المكونات في الخارج.
ويرى أن سر الطعم لا يكمن في اللحم أو البرغل، بل في روح المكان، وبروائح الأسواق وأصوات الناس التي تمتزج في كل لقمة، فالكبّة بحسب وصفه هي بوابة لاستعادة الانتماء وملامسة الذاكرة الأولى للحي والأصدقاء.
تغير الأذواق وتحديات التراث
رغم قيمتها الثقافية والاجتماعية، تواجه الكبّة الحلبية اليوم تحديات عديدة، أبرزها تغير أذواق الجيل الجديد، وانتشار الأطعمة الجاهزة وضغوط الحياة السريعة. بعض المطاعم لجأت إلى تقديم الكبّة بأساليب حديثة أو سريعة التحضير لتلبية الطلب، ما أفقدها جزءًا من حرفيتها التقليدية التي ميزت المطبخ الحلبي لعقود.
ومع ذلك، تبقى الكبّة رمزًا للمطبخ الحلبي، وجسرًا يربط بين الأجيال والمغتربين وأهل المدينة، ومن خلالها تتجلى ملامح التراث اللامادي الذي لا يزال يقاوم التغيرات، ويعيد تعريف العلاقة بين الحاضر والماضي عبر نكهة واحدة تحمل ذاكرة مدينة بأكملها.