الخميس, 4 ديسمبر 2025 04:00 PM

التقاضي المناخي: سلاح القانون في مواجهة الاحتباس الحراري وإلزام الحكومات والشركات بالمسؤولية

التقاضي المناخي: سلاح القانون في مواجهة الاحتباس الحراري وإلزام الحكومات والشركات بالمسؤولية

دمشق-سانا: بعد عقد من التطورات القضائية الهامة، لم يعد تغير المناخ مجرد قضية سياسية، بل تحول إلى صراع قانوني عالمي يجبر الحكومات والشركات الكبرى على تغيير سلوكها. من قضية "أورخندا" في هولندا إلى المحاكم في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، يبرز التقاضي المناخي كأداة لاستعادة ثقة المجتمعات وإلزام الملوثين بتحمل مسؤولياتهم. ومع اختتام مؤتمر "كوب 30" بتسوية وُصفت بالضعيفة، يتجه العالم نحو مرحلة جديدة يكون فيها القانون هو خط الدفاع الأخير عن المناخ، والشعوب تعود إلى العمل.

واجب أخلاقي وإلزام قانوني

شهد العقد الأخير زيادة كبيرة في القضايا المتعلقة بالمناخ، مما دفع الحكومات والشركات الصناعية الكبرى إلى اتخاذ خطوات ملموسة لخفض الانبعاثات، وتحويل العمل المناخي من مجرد وعود إلى التزامات فعلية. ويشير تقرير شبكة التقاضي المناخي إلى أن هذه الزيادة أسست "هندسة قانونية ملزمة" تفرض واجبات واضحة على الدول والشركات، استنادًا إلى سلسلة من الأحكام التاريخية، أبرزها قضية أورخندا التي أجبرت الحكومة الهولندية على رفع سقف طموحاتها المناخية. وقد شكلت هذه القضية سابقة عالمية، حيث كانت المرة الأولى التي تأمر فيها محكمة حكومة باتخاذ إجراءات أكثر صرامة، بعد التماس تقدمت به مؤسسة غير ربحية، إلى جانب حوالي ألف مواطن، لإلزام الحكومة بخفض الانبعاثات وحماية حقوق الإنسان.

فجوة الثقة

جاء هذا التحرك القانوني نتيجة لعدم التوافق الكبير بين رغبات الشعوب وقدرة الحكومات على الوفاء بوعودها. إذ يرى 89% من سكان العالم أن حكوماتهم يجب أن تبذل جهودًا أكبر، بينما يثق واحد فقط من كل خمسة بأن هذه الوعود ستتحقق. وهكذا أصبح التقاضي وسيلة لاستعادة القدرة على التأثير، بعيدًا عن الضغوط السياسية الآنية. كما فقدت الشركات الكبرى الكثير من الحجج التي استخدمتها منذ التسعينيات للتهرب من المسؤولية، مثل اعتبار المناخ "قضية سياسية" أو الادعاء بأن تأثير شركة واحدة "قطرة في محيط". وقد تراجعت قوة هذه الذرائع بعد سلسلة من الأحكام في ألمانيا والبرازيل وكوريا الجنوبية وإيرلندا، والتي أرست معايير جديدة لمحاسبة كبار الملوثين مثل "شل" و"توتال إنرجيز".

قضايا مفصلية وأثر ممتد

ترصد الشبكة القانونية زيادة ملحوظة في القضايا الناجحة خلال السنوات الماضية، بدءًا من دعوى أصغر لغاري في باكستان عام 2015، وصولاً إلى قضية "KilmaSeniorinnen" التي أصدرت فيها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكمًا ضد سويسرا، معتبرة أن تقاعسها عن العمل المناخي يرقى إلى انتهاك حقوق الإنسان. وحتى القضايا التي لم تحقق نصرًا مباشرًا تركت أثرًا بالغًا، مثل قضية سكان جزر توريس ضد الحكومة الأسترالية، والمزارع البيروفي ليويا ضد شركة RWE، حيث نجحتا في تثبيت مبادئ قانونية تلزم الشركات بتحمل تكاليف الأضرار المتوقعة إذا لم تتخذ إجراءات وقائية.

وتؤكد سارة ميد، المديرة المشاركة لشبكة التقاضي المناخي، أن ما كان "واجبًا أخلاقيًا قبل عشر سنوات أصبح اليوم التزامًا قانونيًا"، وأن المحاكم باتت إحدى أهم أدوات حماية الأجيال المقبلة من الاحترار الخطير.

الطريق لا يزال طويلاً

جاءت نتائج مؤتمر "كوب 30" في البرازيل أقل من توقعات العديد من الدول، خصوصًا مع غياب خريطة طريق للتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري. ومع ذلك، تحدثت الأمم المتحدة عن دخول "عصر التنفيذ"، مشيرة إلى نقاط أساسية في الاتفاق قد تدفع العمل المناخي إلى الأمام، مثل التعهدات بمشاريع الطاقة المتجددة وتخصيص تمويلات ضخمة للبنى التحتية في الدول النامية. ويرى خبراء أن الضغوط المضادة من الدول النفطية ساهمت في إضعاف مخرجات المؤتمر، فيما يؤكد آخرون أن العمل المناخي لا يمكن أن يعتمد فقط على الإجماع العالمي، بل يحتاج إلى مبادرات موازية من الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، إضافة إلى أدوات قانونية صارمة، وهو ما ينسجم مع صعود التقاضي المناخي خلال العقد الماضي.

إنذارات العلماء.. ومؤشرات الأمل

في موازاة النقاشات السياسية، أصدر مئات العلماء إعلانًا عاجلاً يحذر من دخول البشرية "منطقة الخطر" إذا لم تُخفض الانبعاثات إلى النصف بحلول عام 2030، مع التحذير من استمرار تدهور الغابات والتربة، وهما من أهم المخازن الطبيعية للكربون. لكن الإعلان أضاء أيضًا على "نقاط التحول الإيجابية"، مثل الانخفاض الحاد في أسعار الطاقة الشمسية وتسارع تبني التقنيات منخفضة الانبعاثات. ويرى خبراء المناخ أن العالم يعيش مفارقة واضحة: فالانبعاثات لا تزال مرتفعة، لكن الأدوات القانونية والتقنية والاجتماعية لتحقيق نتائج ملموسة لم تعد بعيدة المنال. وتشير التجارب التاريخية من بروتوكول كيوتو إلى التزامات الاتحاد الأوروبي إلى أن وضع أهداف طموحة غالبًا ما يقود إلى تجاوزها، رغم كل الضجيج المعارض.

المستقبل يُعاد رسمه

بين ساحات القضاء وطاولات التفاوض وتحذيرات العلماء، يتحرك العالم نحو مرحلة جديدة عنوانها التغيير المفروض لا الاختياري. فالتقاضي المناخي، الذي بدأ كحراك شعبي محدود، أصبح اليوم أحد أكثر الأدوات تأثيرًا في ضبط سلوك الحكومات والملوثين الكبار. ومع ضغط الرأي العام، وتمدد الطاقة المتجددة، وازدياد قوة الأحكام القضائية، يقترب الكوكب من لحظة قد تغير اتجاه المعركة: المساءلة أصبحت واقعًا، والقانون بات الدرع الأخير لحماية المناخ.

مشاركة المقال: