رفع العقوبات عن سوريا: لحظة مفصلية لاختبار قدرة الدولة والمجتمع على بناء المستقبل


هذا الخبر بعنوان "سوريا بلا عقوبات: الفرصة التي تحدّد مستقبل الدولة" نشر أولاً على موقع syriahomenews وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٠ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
يشير د. سلمان ريا إلى أن العقوبات المفروضة على سوريا لم تكن مجرد وسيلة ضغط خارجية عابرة، بل تطورت مع مرور الوقت لتصبح بنية متكاملة أثرت بعمق في النسيج الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وأسهمت في إعادة صياغة الحياة العامة لتسير وفق منطق الاستثناء لا التخطيط الممنهج. وعليه، فإن تناول مسألة "سوريا بلا عقوبات" لا يمكن أن يتم من منظور إجرائي إداري أو تحول تقني بسيط، بل يجب النظر إليها كلحظة تاريخية مفصلية تضع الدولة والمجتمع السوري أمام امتحان حقيقي.
على الصعيد الاقتصادي، فرضت العقوبات قيودًا شديدة، أشبه بسقف زجاجي، على الديناميكية الطبيعية للاقتصاد السوري، مما اضطره للعمل في الخفاء والاعتماد على آليات التفافية بديلة. إن رفع هذه العقوبات لا يضمن انتعاشًا اقتصاديًا فوريًا، ولكنه سيكسر حلقة العزلة التي شلت التحويلات المصرفية الرسمية، وعرقلت استيراد التكنولوجيا والمواد الخام الضرورية، وقيدت الاستثمار المنتج. الأثر الأبعد لرفع العقوبات لا يقتصر على ما سيتحرك وينشط، بل يمتد ليشمل ما قد ينهار ويزول، وفي مقدمته اقتصاد التهريب والسوق السوداء وشبكات المصالح التي ازدهرت واستفادت من الحصار أكثر مما قاومته.
أما اجتماعيًا، فإن تأثير العقوبات لا يُقاس فقط بمؤشرات التضخم والفقر، بل بما أحدثته من تآكل في جوهر الحياة اليومية. فعندما يصبح تأمين الاحتياجات الأساسية كالدواء والغذاء والطاقة هاجسًا مستمرًا، يتحول المجتمع إلى حالة استنزاف دائمة، ويختفي الأفق المستقبلي الطويل ليحل محله منطق البقاء. ورغم أن رفع العقوبات لن يعيد الاستقرار الاجتماعي بشكل تلقائي، إلا أنه سيمهد الطريق لاستعادة مفهوم "المستقبل"، وهو شرط أساسي لأي عملية تعافٍ مجتمعي حقيقية.
من الناحية السياسية، يمثل غياب العقوبات نهاية لواحدة من أبرز الذرائع التي طالما حضرت في الخطاب العام. فمع انحسار تأثير العامل الخارجي، تنتقل المسؤولية بشكل أكثر وضوحًا إلى الداخل، لتتركز على الأداء المؤسسي، والسياسات العامة، وقدرة الدولة على إدارة مواردها واستغلال الفرص المتاحة. وفي هذا الإطار، لا يوفر رفع العقوبات حماية لأي جهة، بل يفرض معايير أعلى من الشفافية والمساءلة، ويعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع لتكون مبنية على الإنجاز الفعلي لا على التبريرات.
لكن مرحلة ما بعد العقوبات ليست مرحلة محايدة بطبيعتها؛ فهي ستعيد تشكيل خريطة المصالح وتطرح تساؤلاً جوهريًا حول كيفية إدارة الانفتاح. فإما أن يُستغل هذا الانفتاح كفرصة لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتنظيم السوق، وتحفيز الإنتاج بما يخدم الصالح العام، أو أن يُستثمر بطرق تعيد إنتاج الاختلالات السابقة في صور جديدة. وبين هذين المسارين، يبرز خطر ثالث يتمثل في انفتاح غير منضبط قد يؤدي إلى اتساع الفجوة الاجتماعية وتقويض الثقة العامة.
وعلى الصعيد الاستراتيجي، فإن غياب العقوبات عن سوريا يطرح مجددًا سؤال الدور والموقع. فهل ستكون هذه المرحلة بمثابة بوابة لعودة سوريا إلى محيطها الإقليمي والدولي كدولة فاعلة وذات سيادة، أم ستبقى مجرد ساحة تتلاقى فيها المصالح المتضاربة؟ وهل سيتحول ملف إعادة الإعمار إلى مشروع وطني يخضع لأولويات واضحة ومحددة، أم سيظل حكرًا على مجال تنافس ضيق؟
يبقى التساؤل الأعمق: هل يمثل رفع العقوبات شرطًا مسبقًا للتغيير أم اختبارًا حقيقيًا له؟ من البديهي أن العقوبات قد فرضت عبئًا ثقيلاً على المجتمع والاقتصاد، ولكن الأوضح هو أن غيابها يضع كافة الأطراف أمام مسؤوليات مباشرة. فإذا اقترن الانفتاح بإصلاحات مؤسسية وإدارية جوهرية، فإن رفع العقوبات سيكون قد فتح بالفعل باب التعافي. أما إذا استمرت المعوقات والتعثر، فإن المشكلة الحقيقية ستكون كامنة في الداخل لا في العوامل الخارجية.
في الختام، لا يعني غياب العقوبات عن سوريا نهاية التحديات، بل يمثل نهاية للذرائع. إنها لحظة فارقة لاختبار قدرة الدولة على الانتقال من مجرد إدارة الأزمة إلى بناء مستقبل حقيقي، ولقدرة المجتمع على استعادة ثقته بأن الغد المشرق ممكن التحقق.
سياسة
سياسة
سياسة
سياسة