التشابكات المالية في سوريا: إرث الفساد وتحديات الحكومة الانتقالية لإعادة بناء الاقتصاد


هذا الخبر بعنوان "عنب بلدي تفتح ملف التشابكات المالية في سوريا" نشر أولاً على موقع enabbaladi.net وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢١ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
منذ عقود طويلة، تراكمت التشابكات المالية المعقدة بين الوزارات والمؤسسات العامة في سوريا، لتتحول إلى أحد أشد الملفات الاقتصادية والإدارية تعقيدًا. يتوازى هذا الملف مع قضايا الفساد الضخمة التي تتوالى عمليات كشفها من قبل الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش والجهاز المركزي للرقابة المالية. هذه التشابكات لم تكن مجرد أرقام محاسبية متداخلة، بل عكست خللًا هيكليًا عميقًا في إدارة المال العام، وغيابًا للمساءلة، وتداخلًا للديون بين الجهات الحكومية. ومع مرور الزمن، أصبحت هذه الأزمة بؤرة للفساد وعائقًا أمام تنفيذ المشاريع، وتشكل اليوم أحد أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية السورية في مساعيها لإعادة بناء الاقتصاد.
في إطار تحقيقها، وجهت عنب بلدي أسئلة إلى وزارة المالية السورية للاستفسار عن كيفية معالجة ملف التشابكات المالية بين الجهات الحكومية في عهد النظام السابق، وما إذا كانت هذه الديون قد أسقطت (والتي قدر مصدر محاسبي سوري حجمها في عام 2023 بعشرة تريليونات ليرة سورية، وفقًا لصحيفة محلية آنذاك)، وهل تم اعتبارها خسائر على غرار ما فعله مصرف سوريا المركزي مع الودائع المجمدة للمصارف السورية في المصارف اللبنانية. إلا أن وزارة المالية امتنعت عن الإجابة.
توجهت عنب بلدي بأسئلتها إلى أحد المديرين المسؤولين في الوزارة ذاتها، الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب إدارية خلال اتصال هاتفي. أوضح المسؤول أن قضية التشابكات المالية تتجاوز نطاق عمل وزارة المالية، كونها ترتبط بعمل جميع الجهات والوزارات والمؤسسات التابعة لها. وأضاف أن “تخلف الجهات العامة عن سداد الديون المترتبة عليها فيما بينها يمثل وجهًا من أوجه الفساد، وينبغي للجهات الرقابية الداخلية في كل وزارة التحقيق بشأنه، ثم إحالة الملفات إلى الأجهزة الرقابية العليا المعنية”. وبرر المدير ذاته تكتم المعنيين في وزارة المالية بشأن هذه التشابكات بعدم الرغبة في فتح ملفات قد تعيق عمل الوزارة، وتركيزها على حل القضايا ذات الأهمية القصوى، مثل تحسين مستوى الرواتب والأجور للعاملين في الدولة والمتقاعدين، وإصلاح النظام الضريبي والمحاسبي، وقطاع التأمين، وإنهاء حالة التضارب في الصلاحيات والاختصاصات بين المالية ومصرف سوريا المركزي بشأن العلاقة مع المصارف العامة، وغيرها.
يرى الخبير والمستشار الاقتصادي السوري مهند الزنبركجي أن التشابكات المالية ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات طويلة. فقد تكبدت مؤسسات القطاع العام خسائر حادة أدت إلى عجزها عن السداد، في ظل غياب الرقابة والمساءلة وتفاقم التقاعس الإداري. ومع اندلاع الحرب وبدء الثورة السورية عام 2011، وفرض العقوبات الدولية على سوريا، دخلت المؤسسات الحكومية في حالة شلل شبه كامل، مما جعلها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية.
تتجلى أزمة الديون الحكومية السورية في صور متعددة، وفقًا للخبير ذاته المختص بإدارة الأزمات، أبرزها:
وأوضح الخبير الزنبركجي أن هذه الأمثلة تكشف أن المشكلة ليست محاسبية فقط، بل هي انعكاس لخلل هيكلي في إدارة المال العام.
انعكست التشابكات المالية على الاقتصاد السوري بشكل مباشر، فقد أدى غياب أرقام دقيقة للدين العام إلى فقدان مصداقية الإدارات المالية الحكومية، بينما عطّل تراكم العجز الهائل الإنفاق الحكومي الاستثماري على المشاريع الجديدة. كما أسهم ترحيل الأعباء المالية من سنة إلى أخرى في رفع معدلات التضخم بشكل تراكمي، وجعل فك هذه التشابكات أكثر صعوبة بعد دمج بعض الوزارات عقب سقوط النظام السابق.
وقال الخبير الاقتصادي السوري إن الديون الحكومية نجم عنها:
وتبقى مخاطر استمرار هذه التشابكات دون تسوية جذرية ماثلة أمام الجميع لجهة الفساد المالي والإداري، بحسب الخبير السوري، نتيجة عدم وجود أي مساءلة من الجهات المختصة ذات الصلة كالهيئة المركزية للرقابة والتفتيش والجهاز المركزي للرقابة المالية أو الجهات الأخرى المسؤولة عن متابعة شؤون مجلس الوزراء في الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية ووزارة المالية. أما تحويل الديون إلى ديون معدومة، فيؤكد الزنبركجي أنه سيسبب تضخمًا في العجز، وتراجع قدرة الدولة على إنجاز أي تخطيط لمشاريع مستقبلية أو تنفيذها، وبالتالي الوصول إلى شلل حكومي كامل.
أكد الخبير الاقتصادي والاستشاري أن الحلول لهذا الملف الشائك تستوجب “مساءلة الوزراء، والمديرين العامين والماليين في الوزارات والشركات الذين كانوا على رأس عملهم خلال فترة حكم النظام السابق، والتحقيق في كيفية منحهم براءات ذمة عند انتهاء مدة عملهم مع الدولة، دون أي مدونات تسليم واستلام أصولًا بينهم وبين بدلائهم عن الأعمال الواجب تتمتها، والذمم المالية للمؤسسة (ما لها وما عليها) تجاه باقي الجهات الحكومية”.
ويضاف إلى ذلك ضرورة إجراء:
يرى الزنبركجي أن هناك عدة تجارب ناجحة في بعض دول أوروبا الشرقية، مثل رومانيا وهنغاريا، اللتين اعتمدتا على إصلاح مؤسسي مترافق مع إصلاح مالي يستند إلى الشفافية لفك التشابكات مع رقابة حكومية صارمة، وإجراءات مشددة لعدم تكرار هذه التشابكات مستقبلًا. وتم أيضًا طرح حل آخر يتمثل بـ”التقاص” بين الوزارات والجهات الحكومية، ومن الجهات التي لديها تشابكات مالية التأمينات الاجتماعية ومؤسسات وشركات الكهرباء والمياه والهاتف والجهات العامة ذات الطابع الاقتصادي، التي يجب عليها تحويل جزء من أرباحها لوزارة المالية، وغيرها الكثير من الجهات العامة.
كانت السلطتان التشريعية والتنفيذية في سوريا زمن النظام السابق، أصدرتا عددًا من القوانين لمعالجة ملف التشابكات المالية أبرزها:
كما أصدرت رئاسة الجمهورية الحالية، المرسوم رقم “275” لعام 2025، القاضي بإعفاء المكلفين بضريبة دخل الأرباح الحقيقية والضرائب والرسوم المالية المباشرة الأخرى، ورسم الإنفاق الاستهلاكي ورسم الطابع المالي وإضافاتها العائدة لأعوام 2024 وما قبل من كامل الفوائد والجزاءات والغرامات.
تؤكد هذه المعطيات أن التشابكات المالية في سوريا ليست مجرد أرقام متراكمة، بل هي إرث ثقيل من الفساد الإداري والمالي، الأمر الذي يحتم على الحكومة الانتقالية معالجة هذا الملف من خلال إصلاح تشريعي شامل، وهيكلة مالية جذرية، تعيد الثقة بالمالية العامة، وتفتح الطريق أمام الاستثمارات الحكومية.
اقتصاد
اقتصاد
اقتصاد
اقتصاد