تصعيد في حلب: اشتباكات "قسد" ودمشق تعكس تعثر المفاوضات ودور تركيا المحوري


هذا الخبر بعنوان ""قسد" ودمشق.. التفاوض بالنار في حلب ما الدور التركي؟" نشر أولاً على موقع hashtagsyria.com وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٣ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
لم تكن الاشتباكات التي شهدتها أحياء الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب مساء الإثنين، بين قوات سوريا الديمقراطية "قسد" والقوات الحكومية، مجرد حادثة معزولة أو مفاجئة. بل جاءت هذه الأحداث في سياق سياسي وأمني بالغ التعقيد، كاشفة عن تعثر واضح في مسار التفاوض بين الطرفين، ومتداخلة بشكل كبير مع العامل التركي الذي يبرز كعنصر حاسم في تحديد توقيت وأشكال أدوات الضغط المستخدمة. تحمل هذه الاشتباكات، على الرغم من أنها ليست الأولى من نوعها، دلالات عميقة تتجاوز حدود الحيين ذوي الغالبية الكردية، لتلقي بظلالها على مستقبل العلاقة بين "قسد" ودمشق، بل وعلى شكل الدولة السورية في المرحلة القادمة.
إن تجدد الاشتباكات اليوم يعد مؤشراً على هشاشة التفاهمات القائمة، أو ربما على استخدامها كورقة ضغط متبادلة ضمن سياق تفاوضي متعثر.
منذ توقيع اتفاق العاشر من آذار 2025، شكّل حيا الشيخ مقصود والأشرفية إحدى أكثر نقاط التماس حساسية بين "قسد" والقوات الحكومية في حلب. وقد شهد هذان الحيان اشتباكات سابقة، كان آخرها في مطلع الشهر العاشر من العام الجاري، وانتهت باتفاق لوقف إطلاق النار عقب لقاء جمع قائد "قسد" مظلوم عبدي ووزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، وذلك برعاية المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توم باراك. هذا التسلسل الزمني يجعل من الصعب اعتبار ما جرى محض مصادفة، ويعزز فرضية أن خيار "تحريك المفاوضات بطريقة مختلفة" - كما عكسه الخطاب السياسي - قد تُرجم ميدانياً بما يمكن وصفه بـ "التفاوض بالنار".
يطرح توقيت هذه الاشتباكات تساؤلات جوهرية حول الدوافع و"كلمة السر" وراءها. فقد اندلعت بعد وقت قصير من انتهاء المؤتمر الصحافي المشترك لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيره التركي هاكان فيدان في قصر الشعب بدمشق، وذلك عقب لقاء الوفد التركي الذي ضم وزير الدفاع ورئيس الإستخبارات مع رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع. خلال المؤتمر، أظهر الطرفان السوري والتركي توافقاً واضحاً في اتهام "قسد" بعدم الجدية في تنفيذ اتفاق 10 آذار/مارس، الذي يقضي باندماجها في مؤسسات الدولة السورية. جاء ذلك على الرغم من إعلان الشيباني تلقي دمشق رداً مكتوباً من "قسد" على مقترح جديد، وأن هذا الرد قيد الدراسة. أكد الشيباني أن دمشق لم تلمس "إرادة جدية" لدى "قسد"، بينما كرر فيدان الموقف نفسه، في انسجام سياسي لافت. بعد أقل من نصف ساعة، وتحديداً عند الساعة الخامسة مساءً، أعلنت الحكومة السورية اندلاع الاشتباكات في محيط الشيخ مقصود والأشرفية. هذا التسلسل الزمني يعزز فرضية "التفاوض بالنار" كخيار لتحريك المفاوضات.
وفقاً للمعلومات المتداولة، ركز رد "قسد" على مقترح الحكومة السورية الأخير المتعلق بالاندماج وتطبيق اتفاق العاشر من آذار على مطلبين أساسيين: الأول هو تثبيت الاتفاقات الموقعة بين الطرفين في الدستور السوري بما يمنحها صفة إلزامية، والثاني أن تُبرم هذه الاتفاقات برعاية دولية خارج دمشق، بما يضمن تنفيذها ويوفر مرجعيات دولية ضامنة. غير أن هذا الطرح بدا وكأنه يصطدم مباشرة بالرؤية التركية، التي تعد أن هندسة الحكم في سوريا شأن تركي بالدرجة الأولى، وترفض أي مسار يمنح "قسد" شرعية سياسية مستقلة أو حماية دولية دائمة. وقد أثّر ذلك بوضوح في لغة المؤتمر الصحافي المشترك؛ إذ ظهر تطابق واضح بين الموقفين السوري والتركي تجاه "قسد"، لا سيما مع تأكيد الوزير التركي أن "استقرار سوريا هو استقرار تركيا".
ميدانياً، اندلعت الاشتباكات بين عناصر "قسد" وقوى الأمن الداخلي التابعة لوزارة الداخلية السورية المنتشرة على الحواجز المحيطة بالحيين. وامتد القنص إلى دواري الليرمون والشيحان، فيما سقطت قذائف هاون في أحياء السريان والجميلية داخل مدينة حلب. اتهمت وزارة الداخلية السورية "قسد" بـ"الغدر"، مشيرة إلى انسحابها المفاجئ من الحواجز المشتركة وفتح النار عليها. في المقابل، قالت "قسد" إن فصائل مرتبطة بوزارة الدفاع السورية هاجمت حاجز دوار الشيحان، ثم شنت هجوماً واسعاً بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة على الحيين، وهو ما نفته وزارة الدفاع السورية. هذا التباين في الروايات يظهر صراع السرديات بقدر ما يظهر تبادل إطلاق النار، إذ يحمّل كل طرف الآخر مسؤولية عدم تنفيذ الاتفاقات الموقعة، في حين تبدو الاشتباكات، في جوهرها، مواجهة محسوبة لإعادة خلط أوراق التفاوض.
لا يقتصر الدور التركي على توفير غطاء سياسي لدمشق؛ بل يتجلى أساساً في تحديد سقف المفاوضات وشكل الحل المقبول. فأنقرة ترى في أي مرونة من الحكومة السورية تجاه مطالب "قسد" تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وتضغط باتجاه دمجها ضمن مؤسسات الدولة بشروط صارمة، أو إخضاعها بأدوات الضغط السياسية والعسكرية. من هذا المنطلق، تبدو حلب - لا الحسكة ولا الرقة - الساحة الأنسب لإيصال الرسالة، نظراً إلى حساسية حيي الشيخ مقصود والأشرفية، وقدرتهما على تحريك المشهد السياسي والأمني من دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة. تشكل هذه الاشتباكات رسالة واضحة إلى "قسد" بأن هامش المناورة يضيق، وأن الوقت المتاح لتنفيذ اتفاق 10 آذار قبل نهاية العام يتقلص، في ظل توافق سوري-تركي آخذ في التصعيد.
على المدى القريب، تنذر هذه الاشتباكات بتقويض اتفاق نيسان/أبريل الخاص بالحيين، إضافة إلى اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في تشرين الأول، وهذا يفاقم تراجع منسوب الثقة بين الطرفين، ويزيد من المخاوف الإنسانية في أحياء مدنية مكتظة بالسكان. سياسياً، تشكل الاشتباكات رسالة واضحة إلى "قسد" أن هامش المناورة يضيق، وأن الوقت المتاح لتنفيذ اتفاق 10 آذار قبل نهاية العام يتقلص، في ظل توافق سوري-تركي آخذ في التصعيد. وعلى الرغم من التصعيد الميداني المحسوب، لا يبدو أن أي طرف يسعى إلى انفجار شامل. فالاشتباكات، بحسب مراقبين، أقرب إلى أداة ضغط مدروسة لدفع "قسد" نحو إبداء مرونة أكبر، لا إلى قرار بالحسم العسكري. ولا تزال آفاق الحل قائمة، لكنها تبقى مشروطة بإعادة ضبط مسار التفاوض: إما بقبول "قسد" بشروط اندماج أقرب إلى رؤية دمشق وأنقرة، وإما بالعودة إلى وساطة دولية - أمريكية تحديداً - تعيد تثبيت التهدئة وتمنع انزلاق حلب إلى جبهة مفتوحة. في المحصلة، ما يجري في الشيخ مقصود والأشرفية ليس صراعاً على حيين فحسب؛ بل فصل جديد من صراع الإرادات في مستقبل شمال شرق سوريا؛ إذ تختلط البنادق بالبيانات السياسية، وتتحول الشوارع إلى طاولة تفاوض ساخنة.
سياسة
سياسة
سياسة
سياسة