الأعياد في زمن السوشيال ميديا: تحولات عميقة في الطقوس الاجتماعية بين التواصل الافتراضي وتحديات الواقع

لم يقتصر تأثير التطور التقني على الجوانب المهنية لحياة البشر فحسب، بل امتد ليلامس صميم عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية. فقد غيرت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واضح شكل الاحتفال بالأعياد، فبعد أن كانت هذه المناسبات مرتبطة بالزيارات العائلية والتجمعات المباشرة، تحولت لدى كثيرين إلى احتفالات افتراضية تعتمد على المشاركة الرقمية وتبادل التهاني عبر الشاشات.

الاحتفالات الافتراضية وتقريب المسافات

مع الانتشار الواسع لمنصات مثل إنستغرام وسناب شات وتيك توك، بالإضافة إلى تطبيقات المراسلة كـ واتس آب وماسنجر، أصبحت المعايدات الافتراضية بديلاً شائعاً للزيارات الشخصية. وقد ساهم هذا التحول بشكل خاص في ظل التباعد الجغرافي الناتج عن الهجرة، والظروف الاقتصادية التي قيدت التنقل والتجمعات، مما جعل العيد تجربة جماعية افتراضية أكثر منها واقعية.

أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تقريب المسافات بين أفراد العائلة الواحدة، خصوصاً أولئك المنتشرين في مناطق ودول مختلفة. فقد أتاحت مكالمات الفيديو والرسائل الفورية تبادل التهاني ومشاركة اللحظات الخاصة، مما يوفر الوقت والتكاليف ويحافظ على قدر من التواصل والارتباط العاطفي بين الأقارب.

تراجع الطقوس التقليدية وتأثيراتها السلبية

في المقابل، يشير مختصون إلى أن الاعتماد المتزايد على التواصل الرقمي انعكس سلباً على الطقوس الاجتماعية التقليدية للأعياد. فقد تراجعت الزيارات العائلية المباشرة، وحلّت الرسائل السريعة والإيموجي محل اللقاءات الفعلية، ما أفقد العيد جزءاً من أجوائه الروحية والاجتماعية التي كانت تقوم على التلاقي والمشاركة المباشرة.

آراء المواطنين: بين الضغط النفسي وقرب الآخرين

يعبر المواطنون عن تجارب متباينة مع هذا التحول. يقول سامر قدح إنّ وسائل التواصل الاجتماعي «غيّرت شكل العيد إلى حدٍّ كبير»، موضحاً أنها قللت من فرحته بالمناسبة. ويضيف أن المقارنة أصبحت حاضرة في كل تفصيل، من شكل الاحتفال إلى الهدايا، ما يخلق ضغطاً نفسياً غير مبرر. ويشير قدح إلى أن تصوير الاحتفال تحول إلى جزء أساسي من العيد لدى كثيرين، أحياناً على حساب العيش الحقيقي للحظة، لافتاً إلى شعوره بعدم الرضا في بعض الأحيان نتيجة ما يراه على المنصات، معتبراً أن ما يُعرض غالباً لا يعكس الواقع.

من جهتها، ترى دارين فرج أن وسائل التواصل الاجتماعي زادت من شعورها بقرب الآخرين خلال الأعياد، لاسيما في ظل تباعد العائلات. وتوضح أنها تحب مشاركة الصور واللحظات الجميلة التي أصبحت جزءاً طبيعياً من العيد ووسيلة لتوثيق الذكريات والتعبير عن الفرح ولكن دون مبالغة، معتبرة أن التصوير بات حاضرًا لكنه ليس العنصر الأهم في العيد. وتلفت إلى أنها تشعر أحياناً بعدم الرضا بسبب الصور المثالية المنتشرة، لكنها تدرك أن ما يُنشر هو انتقاء للحظات وليس الصورة الكاملة للحياة.

قراءة اجتماعية ونفسية: سلاح ذو حدين

ترى الدكتورة مايا بركات، المدرّسة في كلية التربية بجامعة طرطوس، أن وسائل التواصل الاجتماعي أحدثت تغييرات عميقة في الطقوس الاجتماعية المرتبطة بالأعياد، معتبرة أنها سلاح ذو حدّين. فمن جهة، سهلت التواصل مع الأقارب البعيدين جغرافياً وأتاحت تبادل التهاني ومشاركة الأجواء الاحتفالية مع أصدقاء من خلفيات ثقافية مختلفة. ومن جهة أخرى، قللت من فرص اللقاءات المباشرة التي كانت تسهم في تقوية الروابط العائلية، حيث جرى الاستعاضة عن الزيارات الشخصية بالرسائل الرقمية، وتحولت التهاني الشفهية إلى منشورات وصور وقصص مصورة.

الاحتفال الاستعراضي والضغوط الاجتماعية

تشير الدكتورة بركات إلى أنّ وسائل التواصل أسهمت في خلق نمط جديد من «الاحتفال الاستعراضي»، حيث تغيرت الأولويات وأصبح التركيز منصبّاً على توثيق اللحظات ومشاركتها بدل عيشها، ما أدى إلى تراجع البعد الروحي والاجتماعي للأعياد لصالح الجانب البصري والترفيهي. كما تحولت الهدايا والملابس والولائم إلى محتوى موجه للجمهور بهدف جذب الإعجابات والتفاعل، الأمر الذي أثار لدى بعض الأفراد مشاعر الغيرة وعدم الرضا، وزاد الضغوط الاجتماعية، خصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.

انعكاسات نفسية على الأفراد

توضح الدكتورة بركات أن المقارنة المستمرة مع صور الاحتفالات «المثالية» المنشورة على وسائل التواصل تؤثر سلباً في الصحة النفسية خلال الأعياد. فكثيراً ما يقارن البعض احتفالهم البسيط بولائم فاخرة وملابس باهظة، ما قد يؤدي إلى تراجع الشعور بالفرح الحقيقي. وتؤكد أن الدراسات تربط هذا النوع من المقارنة بارتفاع مستويات القلق والاكتئاب، مشيرة إلى أن ما يُنشر على المنصات هو في الغالب صورة منتقاة للحقيقة، لا تعكس الحياة الكاملة للأفراد.

تأثير وسائل التواصل على الأطفال وذاكرة العيد

وحول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال، تبيّن الدكتورة بركات أن الاستخدام الاستهلاكي السلبي للمنصات قد يؤدي إلى تشتيت انتباههم وإضعاف قدرتهم على الانغماس في لحظات العيد الحقيقية، ما ينعكس على تشكيل ذاكرتهم الجمعية. فبدل أن تتكون ذكريات العيد من خلال التجربة العائلية المباشرة، قد تتشكل عبر صور الآخرين والمؤثرين، ما يؤدي إلى تآكل الذاكرة العائلية المشتركة.