سوريا ما بعد الأسد: تحديات التنوع الديموغرافي ومخاطر التدخلات الخارجية


هذا الخبر بعنوان "التنوع الديموغرافي السوري.. كيف يعالج السوريون إرث التلاعب الذي خلّفه النظام؟" نشر أولاً على موقع syriahomenews وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٥ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
تُعد سوريا من أقدم الدول المأهولة في التاريخ، وقد تعاقبت عليها حضارات متنوعة منذ آلاف السنين، من مملكتي ماري وإيبلا إلى مملكة تدمر وغيرها، وصولاً إلى استقلالها عن الانتداب الفرنسي عام 1946. هذا التراكم الحضاري أسس لنموذج فريد من التنوع السكاني على الصعد العرقية والدينية والثقافية والاجتماعية، مما منح الدولة السورية هوية متميزة في المنطقة. لطالما كان هذا الفسيفساء السوري مصدر قوة في مجالات عدة، أبرزها الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، إلا أنه تحول إلى نقطة ضعف سياسية خلال حكم نظام الأسد المخلوع، الذي حوّل هذا التنوع إلى مجرد شكل بلا أي تأثير سياسي حقيقي.
التنوع قوة لا ضعف
لم يكن التنوع يوماً سبباً لضعف الدول التي تبني أسسها ودساتيرها على مفهوم الوطن والمواطنة، متجاوزةً الاعتبارات العرقية أو الدينية أو الثقافية، كما هو الحال في الدول الأوروبية. فبعد الحرب العالمية الثانية، فتحت أوروبا أبوابها للقادمين من مختلف أنحاء العالم، مدركةً حاجتها للعقول والأفكار القادرة على البناء. اليوم، يضم المجتمع الأوروبي أصولاً آسيوية وإفريقية وأميركية، وأدياناً متنوعة كالمسيحية والإسلام واليهودية والهندوسية، يجمعهم جميعاً الانتماء للوطن وجنسية الدولة. سيادة القانون والمواطنة ضمنت للقادمين من الخارج مكانة مرموقة، حيث وصل العديد منهم إلى مناصب سياسية عليا في بريطانيا وألمانيا والسويد، بالإضافة إلى المكانة العلمية والثقافية التي توليها هذه الدول أهمية قصوى بغض النظر عن الأصل أو الدين أو المعتقد. وقد أسهم هذا النهج بشكل كبير في نمو وازدهار وتطور الدول الأوروبية سياسياً وقانونياً واجتماعياً واقتصادياً.
في سوريا، لا يختلف الأمر عن أوروبا من حيث التنوع العرقي والديني والمذهبي، وقد أغنى كل مكون الآخر على مر العصور. لكن مع وصول حكم آل الأسد البائد، كان أول ما قام به هو زرع التفرقة بين السوريين بناءً على أصولهم ودينهم ومذاهبهم، مما مكنه من البقاء في الحكم لمدة 54 عاماً.
سقوط الأسد وتهديد التنوع
على مدى 54 عاماً، عمل نظام الأسد على ترسيخ فكرة أن كل فئة سورية تهدد الأخرى، خاصة الأقليات العرقية والدينية. وقد رسخ النظام المخلوع فكرة أن هذه الفئات ستكون مستهدفة في حال زواله. ولتعزيز ذلك، عمد إلى توريط بعض الأطراف في انتهاكات وجرائم بحق السوريين، ولم يدخر جهداً لإشراك الجميع في هذه الجرائم، مما أوجد عداءً بين بعض الفئات. كما عمل نظام الأسد على تغيير التركيبة السكانية في المدن الكبرى، خاصة دمشق، فمنذ سيطرة الأسد الأب البائد على الحكم، بدأ بإنشاء أحياء سكنية عشوائية بالاستيلاء على أراضي المواطنين حول العاصمة، وجلب أتباعه من قيادات وعناصر الجيش والأجهزة الأمنية بهدف منع أي صوت معارض، مستخدماً الترهيب والاعتقال والقتل. نفذ النظام المخلوع أيضاً مخططات لطمس هوية المدن الكبرى، عبر مشاريع تنظيمية عمرانية ظاهرها التطوير وباطنها تفكيك المدن وتحويل سكانها إلى أعداء يمكن لنظامه وحده منع تصاعد عدائهم. مشروع “حلم حمص” كان أحد هذه المشاريع التي حاولت طمس معالم أحياء كاملة مثل باب هود والحميدية.
مع سقوط نظام الأسد، بدأت أطراف كانت مرتبطة به بالبروز في معاداتها لانتصار الثورة السورية ولثوار سوريا وللحكومة السورية الجديدة، وصدرت بيانات تدعي الخصوصية وتلمح بالخوف من الآخر. من هنا، بدأت المطالبات باللامركزية السياسية والفيدرالية، ووصل الأمر ببعضها إلى المطالبة بالانسلاخ عن الدولة السورية والاستقلال في دويلات صغيرة تابعة للخارج. هذا يؤكد أن آثار السياسات الديموغرافية للنظام المخلوع لا تزال قائمة وتشكل تهديداً حالياً ومستقبلياً ما لم تتم معالجتها بشكل يطمئن جميع السوريين.
أتباع الخارج وتهديد السلم الأهلي السوري
لم يكد يسقط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول 2024 حتى بدأت الأصوات الرافضة للثوار المنتصرين والحكومة الجديدة بالظهور، سواء من فلول نظام الأسد في الساحل، أو في السويداء من قبل حكمت الهجري. أبدى الهجري، منذ الأيام الأولى، آراءً متقلبة ومتدرجة في العداء للدولة السورية والحكومة السورية الجديدة؛ بدءاً من اعتباره أن السويداء تتمتع بخصوصية ديموغرافية ومذهبية، رغم تنوع تركيبتها السكانية كبقية المناطق السورية، ثم انتقل إلى التحريض التدريجي على الدولة واتهامها بالإرهاب، وصولاً إلى أحداث تموز الفائت التي راح ضحيتها العديد من أبناء السويداء من الدروز والبدو ومن محافظات أخرى. لكن مؤخراً، بدأت الحقائق حول ما قام به الهجري وأتباعه بالظهور، وأن ما حاول إشاعته بين الأهالي في السويداء لم يكن سوى للتغطية على اتفاقات سابقة مع إسرائيل لتشكيل قوات للسيطرة على سوريا حال سقوط نظام الأسد.
كشف تقرير صحيفة “واشنطن بوست”، الصادر يوم الثلاثاء 23 كانون الأول، كامل الحقائق حول مخططات الهجري مع إسرائيل و“قوات سوريا الديمقراطية” (قسد). أوضح التقرير أن إسرائيل قررت قبل سقوط الأسد اعتماد العقيد طارق الشوفي، الضابط في جيش الأسد والمنحدر من السويداء، قائداً لقوات كبيرة تسيطر على سوريا حال سقوط الأسد، وأرسلت مبلغ 24 ألف دولار للشوفي للتجهيز لما عُرف لاحقاً باسم “المجلس العسكري” ليكون بديلاً لنظام الأسد، وتم تحويل المبلغ للشوفي عن طريق “قسد”. بعد سقوط نظام الأسد، أعلن الشوفي خلال أيام تشكيل “المجلس العسكري” المتفق عليه، والذي ضم ضباطاً من النظام البائد بينهم ضباط من الساحل، وأعلن المجلس عداءه الصريح للحكومة السورية، متهماً إياها بأنها حكومة إرهابية. لم يصدر موقف عن الهجري فور الإعلان، لكنه عاد وبارك إعلان المجلس لاحقاً واعتبره يمثل محافظة السويداء، قبل أن يتم الانقلاب على المجلس لاحقاً بتشكيل ما سمي “الحرس الوطني” بقيادة ضابط آخر يُدعى “جمال الغوطاني”، وهو عميد سابق في الفرقة الرابعة التي ارتكبت أكبر الجرائم بحق الشعب السوري.
كما كشف التقرير عن الدور الذي لعبته “قسد” بدعم الهجري، من خلال إرسال نحو نصف مليون دولار له لدعم قواته ضد الحكومة، ووجود عناصر خارجة عن القانون من السويداء بينهم نساء في مناطق “قسد” يخضعون لتدريبات عسكرية. وأكد التقرير أيضاً أن إسرائيل بدأت بإرسال السلاح للهجري بعد سقوط النظام البائد بأيام قليلة، وقامت بتزويد عناصره بالرواتب التي يتم دفعها لحوالي 3000 عنصر بشكل شهري، إضافة إلى قيام الهجري بإعداد خريطة لدولة تمتد من السويداء حتى العراق. وهذا بمجمله يؤكد وجود اتفاقات مسبقة لضرب الاستقرار في سوريا.
“قسد”.. صراع داخلي وارتباط بالخارج
في العاشر من آذار الماضي، تم توقيع اتفاق بين الرئيس أحمد الشرع، رئيس الجمهورية العربية السورية، ومظلوم عبدي، قائد قوات “قسد”. وكان أبرز ما نص عليه دمج القوات العسكرية والأمنية التابعة لـ“قسد” بالجيش السوري، وإنهاء فكرة خروج شمال شرق سوريا عن الدولة السورية. نص الاتفاق زمنياً على أن يتم إنجازه مع نهاية العام الحالي 2025، لكن حتى الآن لم يحصل أي اندماج من جهة “قسد”، التي لا تزال تماطل وتتهرب من تنفيذ الاتفاق تحت ذرائع مختلفة، على الرغم من وضوح اتفاق آذار.
أكدت مصادر مطلعة لصحيفة “الثورة السورية” وجود صراع داخلي في “قسد” نفسها، حيث يحكمها جناحان بدأ التنافر يبرز بينهما مع اقتراب مهلة تطبيق اتفاق آذار: أحدهما يرغب بالاندماج في الدولة السورية مع كسب بعض الامتيازات، وجناح يرفض فكرة الاندماج من الأصل، ويسعى للسيطرة على شمال شرق سوريا تحت مسميات مختلفة لدولة مستقلة. الجناح غير المنتمي لسوريا والذي يقوده جميل بايك والمدعوم من أطراف خارجية مختلفة من بينها إيران وإسرائيل معاً، هو الذي يعمل على تعطيل اتفاق آذار، ويسعى لجرّ الدولة السورية إلى حرب مع “قسد” لاستنزافها وخلق حالة من “المظلومية” لطلب تدخل خارجي لاحق. وكانت المحاولة الأخيرة لهذا الجناح إشعال اقتتال في مدينة حلب قبل أيام، إلا أن الحكومة السورية اكتفت بالرد المحدود على المهاجمين من “قسد” دون الوصول إلى حرب شاملة.
تقرير “واشنطن بوست”، الذي نشر المعلومات حول الهجري وارتباطه بإسرائيل، كشف العلاقة الثلاثية بين “قسد” والهجري وإسرائيل، والدعم الذي تقدمه “قسد” لميليشيات الهجري؛ مادياً وتدريبياً وتزويداً بالأسلحة، ومن بينها الصواريخ المضادة للدروع، إضافة إلى كونها وسيطاً مع إسرائيل بإيصال الأموال للهجري. هذه العلاقة جعلت الكرة في ملعب “قسد” في علاقتها مع الدولة السورية وإتمام اتفاق آذار أو عدم إتمامه، وما إذا كانت قيادة “قسد” ستكون قادرة على نبذ الجناح غير السوري وخلق فرصة لإحلال السلام والسلم الأهلي أم لا.
طمأنة السوريين
على الرغم من العقود التي حكم فيها نظام الأسد البائد، والتي عمل خلالها على إفساد علاقة السوريين ببعضهم، وما جرى بعد سقوطه من ظهور أطراف حاولت إكمال عملية الإفساد وضرب النسيج المجتمعي السوري، إلا أن السوريين لا يزالون قادرين على إثبات قدرتهم على التعايش والتغلب على الأزمات التي يمرون بها. لا يزال بإمكانهم البناء لتأسيس دولتهم القادرة على استيعاب الجميع دون أي تفرقة، من خلال نبذ أي طرف يحاول تنفيذ مشاريع خارجية تهدف إلى تهديد البلاد وسلمها الأهلي. يدرك السوريون اليوم، بعد مرور عام على سقوط الأسد، أكثر من أي وقت مضى أن التنوع العرقي والاجتماعي والديني والثقافي مصدر قوة وليس نقطة ضعف، وأن لديهم مصلحة مشتركة للتخلص من إرث نظام الأسد البائد، ونبذ أطراف التفرقة والعمل معاً على بناء سوريا للجميع. كما لا بد للسوريين من استغلال الخبرات التي حصلوا عليها داخلياً وخارجياً وتسخيرها في سبيل بناء وطن موحد قائم على العدالة والمساواة بين الجميع، من خلال تنفيذ أفكار ومشاريع ناجحة في الإدارة والعمل وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء، بالتعاون مع الدولة السورية التي يقع على عاتقها توفير الظروف الملائمة لكل السوريين للعمل معاً، وحماية المجتمع السوري من خلال سن تشريعات وقوانين يمكن من خلالها المحافظة على النسيج الاجتماعي السوري، وجعل الجميع تحت سيادة القانون فقط.
سياسة
سياسة
سياسة
سياسة