وداع عماد الأرمشي: حارس ذاكرة دمشق الذي خلد تاريخها بالصورة والكلمة


هذا الخبر بعنوان "رحيل الباحث والمؤرخ "عماد الأرمشي" ذاكرة دمشق التي أبت أن تغيب" نشر أولاً على موقع zamanalwsl وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٣٠ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
ودّعت الأوساط الثقافية والتاريخية ببالغ الحزن بعد ظهر أمس الاثنين الباحث والمؤرخ الدمشقي البارز محمد عماد الأرمشي، الذي عُرف بعشقه العميق لمدينة دمشق وتفانيه في توثيق تاريخها العريق وملامحها التراثية والإنسانية والعمرانية. برحيله، تفقد دمشق أحد أبرز حراس ذاكرتها المخلصين، ورجلاً آمن بأن صون المدن لا يقتصر على الحجارة وحدها، بل يتجسد في الصورة والكلمة والوثيقة.
أعلنت عائلة الراحل أن جثمانه الطاهر سيوارى الثرى بعد صلاة المغرب في جامع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في رأس الخيمة بالإمارات العربية المتحدة. وكان الأرمشي قد عاد إلى الإمارات منذ فترة، بعد أن كحل عينيه برؤية معشوقته "دمشق" للمرة الأخيرة قبل وفاته.
وُلد عماد الأرمشي في مدينة دمشق عام 1951، ونشأ في حي سوق ساروجا العريق، وتحديدًا في حارة النوفرة. هذه البيئة الغنية بالتاريخ والحياة الاجتماعية كان لها أثر بالغ في تشكيل وعيه المبكر بأهمية المكان والذاكرة. أكمل دراسته الجامعية في قسم التاريخ بجامعة دمشق، حيث نال إجازته عام 1977، ليضع بذلك الأساس العلمي لمسيرته البحثية المتميزة.
بعد تخرّجه، خاض الأرمشي تجارب مهنية خارج سورية، فسافر إلى أوروبا، ثم استقر عام 1982 في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل في مجال النفط. ورغم ابتعاده الجغرافي عن دمشق، إلا أن صلته بها لم تضعف، بل زادت عمقًا وحنينًا، لتتحول المدينة إلى مشروع حياة وهاجس توثيقي لا يفارقه.
منذ عام 2003، انخرط عماد الأرمشي بجدية في مجال التوثيق التاريخي المصوّر لمدينة دمشق. كان هدفه واضحًا: حفظ ذاكرة المدينة من النسيان والضياع. وعلى مدار أكثر من عقدين، عمل بلا كلل على جمع الصور النادرة، والخرائط، والوثائق، والمعلومات المرتبطة بتاريخ دمشق الاجتماعي والثقافي والعمراني، مع تركيز خاص على القرن العشرين وتحولات الحياة اليومية فيه.
خلال هذه السنوات، تمكّن من بناء أرشيف ضخم ونادر، يُعد اليوم مرجعًا موثوقًا للباحثين والمهتمين بتاريخ دمشق. يضم هذا الأرشيف مواد توثّق محطات بارزة مثل معرض دمشق الدولي، وتطور الأحياء والأسواق، والعادات، والفضاءات العامة للمدينة.
تميّز مشروع الأرمشي بطابعه التطوعي، إذ عمل بصمت وإخلاص، متعاونًا مع فريق واسع من المهتمين داخل سورية وخارجها، لجمع الصور والوثائق من مختلف أنحاء العالم، دون أي مقابل مادي. كان يؤمن بأن حفظ ذاكرة دمشق مسؤولية جماعية، تتجاوز قدرات الأفراد والمؤسسات، وتتطلب شغفًا صادقًا وإيمانًا عميقًا بقيمة المكان. وقد عبّر عن هذه القناعة بقوله: "ما زلنا نعمل لغاية اليوم وسنستمر، لأن حبنا لوطننا لا ينضب".
عرفه الجمهور الواسع من خلال منصات التواصل الاجتماعي، حيث تحولت صفحاته إلى نوافذ مفتوحة على دمشق القديمة. كان ينشر من خلالها صورًا نادرة، ومعلومات دقيقة، وحكايات موثقة عن الأحياء والأزقة والمعالم، مقدّمًا التاريخ بلغة قريبة من الناس ومحببة للأجيال الشابة. وقد وصفه كثيرون بأنه لم يوثّق دمشق بالكلمات فقط، بل "بالضوء"، محوّلًا الصورة إلى وثيقة، والزمن إلى حكاية حيّة، جعلت المدينة حاضرة في الوجدان كما هي حاضرة على الشاشات.
خلّف رحيل الباحث والمؤرخ الدمشقي عماد الأرمشي أثرًا بالغًا في نفوس المثقفين والمهتمين بتاريخ دمشق. عبّر كثيرون عن حزنهم بكلمات موجزة لكنها عميقة الدلالة، عكست مكانته العلمية والإنسانية، وأكدت أن غيابه لم يكن فقدان شخص، بل غياب ذاكرة حيّة. وصفه الكاتب الجزائري محمد بن جبور بأنه عاشق صادق لدمشق، حمل حبّها في القلب والكلمة، ومضى عنها وهو ثابت الانتماء، تاركًا أثرًا طيبًا وذكرى وفاء تشهد لها المدينة وياسمينها.
أما "نهى" فرأت فيه حارسًا لذاكرة دمشق، رجلًا كان يقرأ التاريخ في حجارتها وأزقتها، وبرحيله ترجل من حمل عبء الحكاية، مودَّعًا بدعوات الرحمة والمغفرة. وأكد "وسام جوخدار" أن الأرمشي كان من الذين خدموا تاريخ دمشق وذاكرتها بإخلاص، فلم يكتب عن المكان من خارجه، بل سكنه بروحه، وترك أثرًا علميًا باقياً سيظل شاهدًا على محبته العميقة للمدينة وحرصه على تراثها.
من جانبه، أشار "مأمون كريم" إلى أن دمشق فقدت برحيله محبًا وفيًّا وأرشيفًا موسوعيًا أصبح مرجعًا أساسياً لكل من يبحث عن أصالة المدينة وتاريخها. فيما عبّرت "ابتسام شيخة" عن حزنها لرحيل من أحب دمشق بكل تفاصيلها، ماضيها وحاضرها، حاراتها وأزقتها، ليرحل عنها جسدًا بعيدًا، فيما بقيت هي ساكنة في قلبه حتى النهاية.
برحيل عماد الأرمشي، تخسر دمشق باحثًا نذر حياته لحمايتها من النسيان، وتخسر الثقافة السورية شاهدًا أمينًا على تحولات مدينة عريقة. غير أن أرشيفه، وجهده، وأثره المعرفي سيبقون حيّين، يشهدون على رجل أحب مدينته بصدق، وجعل من توثيقها رسالة، ومن ذاكرتها أمانة حتى لحظاته الأخيرة.
سياسة
ثقافة
ثقافة
ثقافة