السبت, 5 يوليو 2025 09:38 PM

إبراهيم الأمين يدعو إلى تجديد الفكر المقاوم: قراءة في تحولات العدو وضرورة التغيير

إبراهيم الأمين يدعو إلى تجديد الفكر المقاوم: قراءة في تحولات العدو وضرورة التغيير

بقلم: ثائر أبو عياش

تمعّنتُ في مقالة الزميل إبراهيم الأمين، المعنونة بـ "كيف نقرأ العدو؟" مرارًا وتكرارًا، واستغرقتُ وقتًا طويلاً لأستوعب فحوى ما يرمي إليه. ومع كل قراءة جديدة، ترسّخت قناعتي بأننا أمام نص فريد، يسعى بصدق وجرأة إلى إحداث قطيعة فكرية مع الأساليب النمطية في التحليل والتفكير السائدة في فهم طبيعة الصراع.

ما يطرحه الأمين ليس مجرد موقف سياسي عابر أو نقد ظرفي، بل رؤية شاملة تنطلق من إدراك عميق لتحوّل العدو، فكرًا وسلوكًا، وتدعونا في المقابل إلى مراجعة الذات بصرامة ومسؤولية.

إن قراءة هذا النص ليست مجرد تمرين على الفهم، بل هي تجربة عبور نحو وعي جديد، يدفعنا إلى التحرر من قيود التراكمات الذهنية التي لازمت العقود الماضية، ومن أسر الزمن السياسي الذي يتجمد عند لحظة انتصار ولّى زمنها. بعبارة أخرى، المقالة لا تكتفي بالإشارة إلى تغيّر العدو، بل تؤكد بوضوح: إن لم نتغيّر، فنحن من سيتلاشى.

لقد تغيّر العدو، وهذه ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل حقيقة بنيوية لا يمكن تجاهلها. لم تعد إسرائيل كما كانت تُقرأ في أدبيات الحرب الكلاسيكية، ولم يعد ممكنًا التعامل معها بوصفها مجرد كيان يحتل الأرض ويمارس عدوانه بشكل نمطي. نحن اليوم أمام منظومة ذات منطق استعماري مُحدَث، تتصرف ككيان ما بعد استعماري، لكنه يحتفظ بجوهره البدائي: السيطرة والعزل والإلغاء. إنها لا تخوض الحرب كخيار، بل كهوية.

لكن ما قاله الأمين، وهو ما يستحق التوقف عنده مليًا، هو أن هذه المنظومة لا تستطيع البقاء دقيقة واحدة إلا في كنف الغرب. ولعل في هذا التوصيف ما يعيد تموضعنا نحن أيضًا: هل ما زلنا نخوض معركتنا داخل جغرافيا هذا الكيان؟ أم أن الحرب أصبحت شاملة، تتجاوز الحدود والمعسكرات والأعلام؟

هذا التحول في سلوك العدو، بل في بنيته، يفرض علينا إعادة طرح السؤال الجوهري: هل تغيّرنا نحن؟ هل استجبنا فعلاً لتحولات المعركة؟ أم ما زلنا نمارس نوعًا من الطقوس السياسية اليومية، نعيد فيها إنتاج الأدوات ذاتها، والعبارات إياها، والمقولات الجاهزة نفسها التي لم تعد تلامس جوهر اللحظة؟

ما يدعونا إليه إبراهيم الأمين هو كسر هذه الحلقة، لا على مستوى السياسة فقط، بل على مستوى الوجود. لقد أصبح النشاط الروتيني والروتين المعتاد خطرًا لا يقل عن القصف والغارات. لأن الخطر اليوم لا يأتي فقط من طائرات العدو، بل من سباتنا الذهني، ومن ثقل التراث المقاوم حين يتحول إلى طقوس خالية من الفعل.

النقطة التي تستوقفني كثيرًا في هذا النص هي رفضه لفكرة التماهي مع العقل الغربي في فهم الصراع. حين يقول إن فريقنا لا يحتاج إلى خبراء استراتيجيين أو محللين على الطريقة الغربية، فهو لا يقلل من قيمة التفكير، بل يدعونا إلى تفكير مختلف، إلى عقل متحرر من الهيمنة المعرفية، ينتج أدواته من تاريخه الحي لا من استيراد النماذج الميتة.

نحن لا نحتاج إلى نخب تفرغ المعنى من المقاومة، وتستعيض عنه بلغة المؤتمرات والتقارير. بل نحتاج إلى عقل يستطيع أن يرى الأشياء كما هي، بلا زخرفة. أن يحدق في العدو بعين اليقين، لا بعين الاحتمال. عقل يدرك، كما كتب الأمين، ما الذي يريده العدو من بلادنا، وكيف نحرمه منه.

فالعدو الذي يسعى إلى أن يسلب خصومه حتى القدرة على التفكير في إيذائه، هو عدو وجودي. عقل هذا العدو لا يقوم على التفاوض، بل على الإبادة. عقل مبني على شهوة السيادة والطمس. وهذه ليست استعارة بل حقيقة مادية، تمشي على الأرض، وتقصف من الجو، وتنتج سردية قاتلة في كل لحظة.

وفي ظل هذه الحقيقة، لا يكفي أن نواصل رصد ما يفعله العدو، بل الأهم أن نعيد النظر في علاقتنا نحن بالمعركة. هل نخوضها فعلاً بما يتناسب مع مستوى التهديد؟ أم ما زلنا نخوضها بنصف عقل ونصف طاقة، نراوح بين خطابات الدعم الموسمية واستجابات ظرفية محدودة؟ هنا، لا بد من استدعاء المقولة الفلسفية العميقة التي أطلقها الشهيد أبو علي مصطفى، الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: «من لا يتجدّد، حتماً يتبدّد». هذه ليست عبارة عابرة، بل قانون حياة للمقاومة.

في هذا السياق، تأتي دعوة الأمين إلى «طي صفحة مع الماضي»، لا من باب التنكر للتاريخ، بل من باب تجاوز العجز المتراكم، والعقد التي كبلت كثيرًا من مسارات العمل المقاوم. لا وقت لدينا لمحاسبة الماضي، بل وقتنا يجب أن يكرس لابتداع وسائل جديدة. لا وقت للتردد أو الترقب أو انتظار توازنات دولية لا تأتي. نحن أمام عدو لا يعيش إلا بالعدوان، ولا يتوقف عن محاولات الاستئصال، ومن لا يفهم هذه البديهية يبقى يدور في حلقة الفشل.

النص الذي كتبه إبراهيم الأمين يصلح أن يكون قاعدة لتأسيس وعي جديد في هذه المرحلة الحرجة. وهو لا يوجه خطابه للعموم، بل للذين يريدون أن يتحملوا المسؤولية فعلاً. للذين يشعرون أن هذه اللحظة ليست عابرة، بل مفصلية، وتتطلب حسمًا على مستوى الرؤية والقرار. هي دعوة للفهم العميق، لا للتوصيف السطحي. دعوة للتركيز لا للتشتيت. دعوة للعمل الجذري لا لإعادة تدوير الأنماط المهترئة.

لهذا كله، أقول إن المقالة لا تقف عند حدود التحليل، بل تشكل أرضية للانطلاق نحو سلوك مختلف، مقاومة لا تنكفئ، لا تنتظر، لا تراهن، بل تشتغل على استباق العدو، على المبادرة، على اختراق قواعد الاشتباك لا احترامها. لأن احترام قواعد العدو يعني القبول بمنطقه، والرضى بهيمنته، ولو جزئيًا.

علينا أن نعيد التفكير بكل شيء: بطريقة تنظيمنا، بطريقة اشتباكنا، بطريقة خطابنا. علينا أن نتحرر من أسر المراحل السابقة، لا بمعنى نكرانها، بل بمعنى تجاوزها إلى ما هو أعمق وأشمل. لا يمكننا الاستمرار في القتال بنفس الأدوات بينما يتقدم العدو في كل اتجاه. ولا يمكننا التعويل على أخلاقيات في حرب لا أخلاق فيها. ما نحتاجه اليوم هو أن نفكر كما لم نفكر من قبل، أن نتصرف كما لم نتصرف من قبل، أن نخرج من جلدنا المعتاد، ونلبس جلد المعركة الفعلية.

* كاتب فلسطيني

مشاركة المقال: