تسعى السلطة الجديدة في سوريا إلى إعادة صياغة الذاكرة الوطنية ومحو رموز المرحلة السابقة، ويظهر ذلك جلياً في إقصاء مثقفين مثل حسن م. يوسف، كاتب مسلسل «إخوة التراب»، من اتحاد الكتاب. هذه الخطوة، التي تأتي ضمن مشروع لإعادة كتابة التاريخ وتطبيع العلاقات مع أنقرة، تثير جدلاً واسعاً حول هوية البلاد وذاكرتها الثقافية.
في دمشق، تحاول السلطة إعادة تشكيل المشهد الثقافي والرمزي، في خطوة تبدو كعملية تطهير ثقافي شاملة. فبدلاً من المراجعة النقدية لمرحلة «البعث» الممتدة لنصف قرن، تتجه سوريا «ما بعد البعث» نحو إلغاء رموزها وتهميش شخصياتها وإعادة كتابة تاريخها بما يتماشى مع الهوية السياسية الجديدة. ويعد إلغاء عضوية الكاتب والسيناريست السوري حسن م. يوسف (1948) من «اتحاد الكتاب العرب» آخر فصول هذه السياسة.
منذ البداية، بدا المشهد أقرب إلى حلقة من مسلسل «مرايا» لياسر العظمة، حيث تتوالى القرارات بتغيير أسماء الشوارع والمدارس وإعادة صياغة المناهج التعليمية، وكأن السلطة المؤقتة وجدت في الهدم طريقاً أقصر من الإصلاح.
وبينما تُرفع شعارات «الهوية الجديدة» و«التحرر من الماضي»، يجري فعلياً إقصاء مرحلة كاملة من التاريخ السوري، بكل رموزها وأفكارها وتناقضاتها، حتى تلك التي أسست للثقافة الوطنية المعاصرة.
والمفارقة أن هذه السلطة تمارس ما كان يدعو إليه الشاعر والمفكر السوري أدونيس، وهو «القطيعة مع الموروث»، ولكنها تفعل ذلك من موقع سلطوي لا نقدي، وبمنطق الطرد لا الحوار.
بعد حذف ذكرى حرب تشرين التحريرية وإلغاء «عيد الشهداء» إرضاءً لأنقرة، جاء استبعاد الكاتب حسن م. يوسف من «اتحاد الكتاب العرب» كخطوة إضافية في الاتجاه نفسه. يوسف، كاتب مسلسل «إخوة التراب» (1996) الذي وثّق مرحلة الاحتلال العثماني وطرح أسئلة الهوية والمقاومة عبر الدراما، وجد نفسه اليوم خارج المؤسسة الثقافية الرسمية. وقد أصدر الاتحاد بياناً بفصل 13 عضواً، بينهم أسماء بارزة من رموز النظام السابق مثل بثينة شعبان وبشار الجعفري، إلى جانب يوسف، بذريعة «خروجهم عن مبادئ الاتحاد ومساسهم بشرف الكلمة».
ردّ يوسف ساخراً عبر صفحته قائلاً: «المضحك أني تفاءلت حين علمت بتعيين د. أحمد جاسم الحسين رئيساً للاتحاد. أما عضويتي، فلم أحمل يوماً بطاقة الاتحاد، وكل ما حدث أني مُنحت عضوية شرف قبل سنوات ولم أتابع الأمر».
في المقابل، علّق ابنه رام يوسف قائلاً: «أن يُوضع اسم والدي في قائمة تضم رفعت الأسد وأسماء ملأت الدنيا تشبيحاً هو تشويه للتاريخ وجريمة بحق الوعي الثقافي السوري. يُعدّ من أبرز من وثّق التاريخ النضالي السوري في الدراما، ومن دافع عن حرية الكلمة لا يُساوى بمن صادرها».
لم يعلق الإعلام الرسمي على اسم يوسف عند نشر القرار، وركّز على الأسماء الأخرى، لكنّ الضجّة الشعبية أعادت تسليط الضوء على الكاتب الذي يُعدّ من أبرز من وثّق التاريخ النضالي السوري في الدراما («إخوة التراب»، و «ملح الحياة»، و«حارس القدس»، و«صلاح الدين الأيوبي»).
في هذا السياق، كتب النجم أيمن زيدان مستنكراً: «أثناء حصار لينينغراد، كان ستالين يقول: لندافع عن وطن بوشكين. حسن م. يوسف هو القاص والأديب الحرّ الذي حمل هموم الناس لأكثر من نصف قرن، ومن أوائل من حملوا الدراما السورية إلى الخارج عبر نهاية رجل شجاع».
أما الكاتب محمد هويدي، فاعتبر أن استبعاده «إعلان عودة أحفاد الظلاميين، فلول القاعدة، لينتقموا من الكاتب الذي وثّق بطولات السوريين في وجه الظلم»، مشيراً إلى أنّ «إخوة التراب» سيبقى «شهادة على نضال الشعب السوري من الثورة العربية الكبرى إلى حرب تشرين».
لم تكن الدراما السورية يوماً بعيدةً من خطوط السياسة، ولا سيما في علاقتها المتقلّبة مع تركيا. فاستبعاد يوسف أعاد فتح النقاش حول التوتر الثقافي القديم بين البلدين.
حين عُرض مسلسل «إخوة التراب» في التسعينيات وأعاد قراءة مرحلة «السفربلك»، أثار اعتراضاً تركياً رسمياً، واستمر التوتر طوال عهد حافظ الأسد. لكن مع مطلع الألفية، عاد الدفء بين دمشق وأنقرة، فغزت المسلسلات التركية المدبلجة باللهجة السورية الشاشات، وأعادت تشكيل الذوق الدرامي العربي.
لكن مع اندلاع الحرب السورية عام 2011 وانخراط تركيا في دعم المعارضة، توقّفت الدبلجة وردّت الدراما السورية بأعمال تمجّد السيادة وتستحضر التاريخ مثل «حارس القدس» و«خريف العشاق».
اليوم، ومع التحوّلات السياسية الجديدة، تُطوى تلك المرحلة أيضاً، إذ تسعى السلطة إلى تسوية ثقافية مع أنقرة، تتجلّى في محو رموز المقاومة العثمانية من الذاكرة الدرامية.
والمفارقة أن قرار فصل يوسف جاء متزامناً مع إعلان عن مسلسل تركي جديد مدبلج باللهجة السورية يحمل اسم «إخوة التراب»، يناقض مضمون العمل الأصلي. وقد علّق يوسف قائلاً: «من حقّ الأتراك أن ينزعجوا من «إخوة التراب» لأنه يوثّق ما اقترفوه بحق شعبنا، لكن لم أتصوّر أن يدفعهم ذلك إلى إنتاج عمل يحمل الاسم نفسه وينقض كل ما جاء فيه!».
منذ صدور القرار، تداول السوريون مشاهد من «إخوة التراب»، أبرزها مشهد إعدام شهداء السادس من أيار على أنغام قصيدة عمر حمد أدى دوره الفنان السوري سامر المصري، في تذكيرٍ جماعي بمرحلةٍ كانت تجسّد فكرة الوطن في مواجهة المحتل. وكما حدث عند حذف ذكرى حرب تشرين من الأجندة الرسمية، تحوّل الإلغاء إلى مناسبة لاستعادة الذاكرة لا لطمسها.
إن استبعاد حسن م. يوسف وإلغاء رموز وطنية وإعادة رسم الخريطة الرمزية للبلاد، كلها حلقات في مشروع متكامل لإنتاج ذاكرة رسمية جديدة تُقصي كل ما لا ينسجم مع السردية الحالية. وبين «سوريا البعث» و«سوريا ما بعد البعث» تضيع حقوق وصفحات من التاريخ، فإذا كانت الأنظمة السابقة قد احتكرت التاريخ باسم الأيديولوجيا، فإن النظام الجديد يُعيد كتابته باسم القطيعة، والنتيجة واحدة: وطن بلا ذاكرة.