لكل حقبة استراتيجيتها ووسائلها الخاصة. فبعد حرب الخليج الأولى، سعت إسرائيل إلى محاكاة أسلوب قتال الجيش الأميركي، من خلال التركيز على الحركة والمناورة واستخدام الأسلحة الذكية. وفي عام 2020، سعى رئيس الأركان الإسرائيلي آنذاك، أفيف كوشافي، إلى تحويل الجيش الإسرائيلي إلى «جيش شبكي» قادر على تدمير العدو وقدراته في وقت قصير وبتكلفة منخفضة، وأطلق على هذا المشروع اسم «الاندفاعة». إلا أن عملية 7 أكتوبر أظهرت عدم ملاءمة هذا النهج العسكري للتحديات الأمنية في القرن الحادي والعشرين.
وفي أغسطس (آب) 2024، أي بعد 7 أكتوبر، كلف نتنياهو الجنرال المتقاعد، جاكوب ناجل، بمهمة دراسة الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة، وتقييم وضع الجيش الإسرائيلي، وتقديم مقترحات تتعلق باستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، بالإضافة إلى تناول الموازنة الدفاعية. وقد تضمنت الاقتراحات ما يلي:
- يقظة مستمرة واستراتيجية مرنة وقابلة للتكيف بدرجة كبيرة لضمان الاستجابة السريعة للتهديدات الناشئة، بغض النظر عن مصدرها.
- إعادة تعريف مفهوم الردع، وتطوير مبدأ الإنذار المبكر.
- الانتقال من إعطاء الأولوية للاحتواء والدفاع إلى مبدأي الوقاية والهجوم. الوقاية تعني منع أي عدو من اختراق حدود إسرائيل، والهجوم يعني العمل الاستباقي.
- إعادة توزيع الجهد والوسائل بين الدفاع والهجوم بنسبة 70 في المائة للهجوم و30 في المائة للدفاع.
- إعادة تعريف كيفية حماية الحدود وتجنب تكرار أحداث 7 أكتوبر.
عقب توليه رئاسة الأركان الإسرائيلية، قام إيال زامير بإعادة هيكلة الجيش الإسرائيلي من خلال تشكيل ألوية مدرعات وألوية مشاة جديدة، وتعزيز قدرات سلاح البحرية الاستراتيجية، مع التركيز على حماية الحدود مع الدول المحيطة. فهل نحن أمام استراتيجية «الأطراف» ولكن بصيغة معدلة لتتناسب مع التحولات الجيوسياسية؟
إذا اعتبرنا أن الاستراتيجية الكبرى لإسرائيل (خاصة مع أرييل شارون) كانت تقوم على ثلاث دوائر: الدائرة الفلسطينية (الأقرب والأهم)، الدائرة العربية (المحيط المباشر)، والدائرة الأوسع التي تضم تركيا وإيران، مع الأخذ في الاعتبار أن شارون كان لديه استراتيجية لكل دائرة. ففي الدائرة الفلسطينية، تم فك الارتباط مع قطاع غزة عام 2005 وبناء الجدار العازل حول الضفة الغربية. أما مع لبنان، فكان اجتياح عام 1982 والقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية من أبرز الاستراتيجيات، رغم أنهما خلقا خطراً وجودياً تمثل في «حزب الله» وإيران.
لقد شكل سقوط نظام الأسد تحولاً مهماً في كيفية وعي إسرائيل للخطر القادم من سوريا، بالإضافة إلى الضربة التي تلقاها «حزب الله». وإذا أضفنا الحرب على غزة، يمكن القول إن إسرائيل تستغل الفراغ الاستراتيجي على المسارح الثلاثة، خاصة بعد حرب الـ 12 يوماً على إيران، مما أظهر نمطاً قديماً – جديداً حول معنى احتلال الأرض وأهمية الأرض والمساحة في الوعي الإسرائيلي الأمني الجديد.
ولأن احتلال الأرض يتطلب جهوداً ووسائل كبيرة جداً، خاصة في البعد البشري العسكري، وهو أمر غير متوفر في إسرائيل، فقد اعتمدت إسرائيل الاستراتيجية التالية في محيطها الجغرافي المباشر: احتلال عمق جغرافي معين في المحيط المباشر، شرط ألا يشكل هذا الاحتلال عبئاً عسكرياً يستنزف الجيش الإسرائيلي، كما حصل بين عامي 1985 و2000 في جنوب لبنان، وتثبيت هذا الاحتلال عبر إنشاء البنى التحتية الملائمة، على أن تشكل هذه البنى التحتية منصة انطلاق لأي عمل عسكري داخل كل من لبنان وسوريا.
إن الربط الجغرافي – الأمني العسكري بين لبنان وسوريا، من خلال القيادة الشمالية المؤلفة من 4 فرق عسكرية، يفرض قواعد اشتباك معينة في الداخل اللبناني والسوري، تقوم على حرية العمل الجوي والهيمنة الجوية وتنفيذ عمليات جوية وبرية متى تشاء ودون عوائق. وتنطبق هذه المقاربة على قطاع غزة، بمعنى احتلال أرض على تماس جغرافي مباشر مع إسرائيل، مع فرض منطقة نفوذ في العمقين اللبناني والسوري.
أما أهمية السويداء فلها الكثير من الأبعاد. فهي من طائفة معينة، ولهذه الطائفة دور أمني في الجيش الإسرائيلي (إذ يحق فقط للدروز والشركس الخدمة في الجيش الإسرائيلي)، ومن الرتب العالية، ألم يُقتل قائد اللواء 401 المدرع في قطاع غزة، وهو من الطائفة الدرزية، إحسان دقسة؟ هذا مع التذكير بأن قانون القومية الإسرائيلي لم يساو الدروز باليهود (2018). كما أن لهذه الطائفة وجوداً مهماً في هضبة الجولان المحتلة. وأخيراً وليس آخراً، تعود استراتيجية التعامل مع الأقليات في المنطقة من قبل إسرائيل إلى أيام مؤسس الكيان ديفيد بن غوريون.
تشكل السويداء بيدقاً صغيراً على مسرح الصراع السوري، وحتى الصراع للسيطرة على سوريا. ففي نظرية المؤامرة، هي نقطة انطلاق للربط مع أكراد كل من سوريا والعراق (ممر داود). يستلزم هذا الأمر إخلاء المنطقة المحاذية للسويداء من العشائر العربية. وفي نظرية الصراع على سوريا التي كتب عنها الراحل باتريك سيل، تشكل السويداء نقطة انطلاق لتقسيم سوريا لمناطق نفوذ بين تركيا وإسرائيل (De Facto) (دون التقسيم الفعلي على أسس دينية مذهبية وإثنية)، على أن تكون المنطقة الممتدة من جنوب العاصمة حتى الجولان منطقة خالية من قوات النظام السوري الجديد، الأمر الذي يذكرنا بحالة لبنان بعد عام 75 وتقسيمه إلى مناطق نفوذ بين سوريا وإسرائيل، وذلك من ضمن مشروع كسينجر.