بقلم: عريب الرنتاوي
في فجر يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، حدث ما لم يكن متوقعًا لجيش الاحتلال الإسرائيلي. لم يكن طريقه إلى بلدة بيت جن آمنًا وسالكًا، لا عند الدخول ولا عند الانسحاب، وواجه ما لم يكن ينتظره. غطرسة القوة والاستعلاء أوقعته في شر أعماله، ولم ينجح في تأمين القوة الغازية إلا بالاستناد إلى تفوقه الجوي، ولم يتمكن من سحب آلياته المعطلة، ففضل تدميرها.
إنه الاحتلال الذي يستدعي المقاومة حيثما وجد، وطالما وجد على أرض الغير. هو قانون المجتمعات والشعوب الذي يحاكي قوانين الطبيعة. ولأن الاحتلال فعل عدواني لا يستأذن أحدًا، فإن المقاومة هي رد الفعل الطبيعي الذي لا ينتظر الإذن من أحد، وهي مكفولة للمقاومين وفقًا لمختلف الشرائع السماوية والوضعية، ولا تنتظر قرارًا "من فوق"، ولا تراعي موازين القوى وحساباتها "من تحت".
السوريون في بيت جن انتصروا لأرضهم وعرضهم، ودافعوا عن حقهم في البقاء الآمن، الحر، السيد، والمزدهر فوق تراب وطنهم. ليست مؤامرة سقطت من الخارج، ولا هي فعل دُبِّر في ليل بهيم، بل هي التعبير العفوي عن أنهم شعب لا يقبل الضيم والذل والاستباحة. هذه هي سوريا التي عرفناها منذ مطلع القرن الفائت، زمن التصدي للاحتلالات الاستعمارية المتعاقبة.
وليست الخسارة الإسرائيلية تنحصر في الجنود والضباط الستة الذين أصيبوا برصاص أهل البلدة وأصحابها، بل الخسارة التي لم تحسب إسرائيل حسابها هي أن عملية بيت جن، والمجزرة التي ارتكبها الاحتلال ضد سكانها الآمنين، والتصدي الشعبي البطولي للغازي والمحتل، إنما أعادت تصويب البوصلة السورية بالكامل، وكانت بمثابة "أحدث تذكير" للسوريين بأن عدوهم، الذي يحتل أرضهم، ويمثل أمامهم كتهديد لمستقبلهم ووحدة كيانهم وأرضهم ومجتمعهم، هو إسرائيل، وإسرائيل وحدها. أما باقي من أُدرجوا لأسباب سياسية ومذهبية، سورية وإقليمية، في عداد "الأعداء"، فهم ليسوا في أسوأ الأحوال سوى خصوم، والخلاف معهم يُحل على موائد التفاوض والحوار، والتفاهم معهم ممكن، بل وقد يصبح ضرورة في مرحلة قادمة. العدوان على بيت جن ومقاومة أهلها أنعشا الهوية الوطنية السورية الجامعة من جديد، ورأينا ذلك في الهتافات ضد العدوان والمعتدين، وفي صيحات التضامن مع أهل الجنوب السوري التي صدحت في مختلف المحافظات السورية، وتردد صداها في الأرجاء.
لم تكن إسرائيل تقصد ذلك بالمرة، وهي صاحبة المشروع التقسيمي-التفتيتي لسوريا، وصاحبة نظرية "حلف الأقليات" الذي لا وظيفة له سوى تفتيت سوريا، دولة وشعبًا وسيادة وكيانًا.
إنها الضارة التي أصبحت نافعة، فقد قدمت الفعلة الإسرائيلية النكراء في بيت جن خدمة جليلة لكل سوري حر، هاله ما تمر به سوريا من "يقظة" لـ"الهويات القاتلة"، الهويات الفرعية المتدثرة بلبوس فدراليات الطوائف والأقوام، كلام الحق الذي يُراد به باطل.
أصحاب هذه الدعوات تلقوا صفعة في الصميم، وانكشف المستور من رهاناتهم البائسة على عدو يعترف العالم بمقارفته جرائم الفصل والتمييز العنصري، وممارسته حرب التطهير والإبادة، و"عسكرته" المساعدات والإغاثة، واتخاذه من التجويع والترويع سلاحًا ضد نساء غزة وأطفالها وشيوخها.
لقد ضربت إسرائيل بخنجرها المسموم في اللحم السوري الحي في بيت جن، وهي فعلة ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة. لقد تابعنا باهتمام وارتياح بالغين متحدثين ومواطنين سوريين ينافحون عن الهوية الوطنية السورية الجامعة، ويتوعدون إسرائيل بأن بلادهم لن تكون لقمة سائغة لشهيتهم المفتوحة على التوسع والهيمنة والعربدة. لقد رأينا ما يشبه إعادة ترتيب جدول الأولويات السورية، مع أن البلاد تمر بظروف لا تحسد عليها، وهي خارجة لتوها من عشرية مثقلة بالدم والخراب والحصار والعقوبات.
لا يعني ذلك، ولا يجوز أن يعني للحظة واحدة، أن قوى التقسيم والانقسام والانفصال في سوريا قد ابتلعت مطالبها وطوت صفحة مشاريعها، فهؤلاء ما زالوا على رهانهم بالتبعية والولاء للعدو الإسرائيلي، وما زالوا على مقامرتهم بطلب الحماية والرعاية من مقترفي مجزرة بيت جن. وأبشع ما أقدموا عليه بعد المجزرة هو مطاردة عشرة من شبان السويداء واعتقالهم بتهمة "التعامل مع دولتهم"، لكأن دمشق باتت طرفًا خارجيًا في حسابات هؤلاء تستوجب الصلة بها أو التعامل معها المحاسبة والمساءلة، أما طوابير الذين يمّموا وجوههم شطر تل أبيب، فلا ذنب لهم ولا جناح عليهم.
غطرسة القوة وعماها: إسرائيل لم تتعلم دروس "الأحزمة الأمنية" و"الأشرطة الحدودية". لقد فعلتها في لبنان، فماذا كانت النتيجة؟ إذ لولا الشريط الحدودي، الدويلة العميلة التي أوكلتها لسعد حداد، ومن بعده أنطوان لحد، لما تنامت مقاومة لبنان، وصولًا للتحرير بلا قيد أو شرط، بلا تفاوض ولا معاهدات واتفاقيات، في مايو/أيار 2000.
لولا "الشريط" لما تداعت كافة القوى الوطنية لإطلاق جبهة المقاومة الوطنية، ولما تسلم حزب الله الراية من بعدها، ليواصل مشوار المقاومة ضد احتلال جائر.
اليوم، في ذروة غطرسة القوة وعماها، تسعى إسرائيل في استنساخ تجربة الشريط الحدودي في لبنان مرة ثانية، وفي سوريا كذلك. تريد للمنطقة من جنوب دمشق وحتى الحدود مع الجولان السوري المحتل أن تكون منطقة خالية، منزوعة السلاح، وربما تنصب عليها أمراء وعملاء محليين ليقوموا بالدور نيابة عنها، ودائمًا من طراز سعد حداد، وعلى شاكلة أنطوان لحد، وما لا يأتي بالقوة قد يأتي بالمزيد منها، هكذا يرد نصًا في خطاب الاستعلاء والاستكبار. والحقيقة التي ستتعلمها إسرائيل بالطريقة الصعبة، إن لم تستوعبها بالطريقة السهلة، هي أن الاحتلال يولد المقاومة، وأن القوة تستدعي القوة، والمزيد منها يستجلب مقاومة أشد وأذكى، وإن الضعيف اليوم لن يبقى كذلك أبد الدهر، وأن القوي اليوم لن يستفيد من فائض قوته غدًا، وتلك الأيام نداولها بين الناس، والمجتمعات والشعوب والدول.
ما لا تدركه إسرائيل بالطريقة السهلة ستدركه بالطريقة الصعبة، وهو أن تفريغ جنوب سوريا من رموز الدولة وقواها العسكرية والنظامية لن يجلب لها الأمن والاستقرار، بل قد يحيلها إلى ما آل إليه جنوب لبنان وبقاعه طيلة أزيد من خمسين عامًا: "فتح لاند"، و"حزب الله لاند"، وأنه سيصبح نقطة جذب لكل من له حساب مع إسرائيل، من فصائل ومنظمات وحركات ودول كذلك، وأنه من دون التعامل مع سوريا كدولة سيدة مستقلة موحدة، ومن دون إنهاء احتلالاتها القديمة والجديدة لأراضٍ سورية، لن تنعم لا بأمن ولا باستقرار، وأن "الهيمنة" و"الغطرسة" لحظة لن تدوم طويلًا، وأن من يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا.
وستدرك إسرائيل بالطريقة الصعبة كذلك أن إضعاف المركز السوري لن يعزز مكانة الأطراف، فهذه فاقدة لقدرتها على الديمومة والبقاء بذاتها، وهي بتغريدها خارج السرب الوطني السوري ستجد نفسها في بحر متلاطم من القوى الشعبية المعادية لها، وإن ما لا تستطيع الدولة السورية الضعيفة أن تقوم به ستقوم به قوى "لادولتية"، إن لم يكن اليوم فغدًا، وتلكم هي سيرة العلاقة بين قوى الدولة و"اللادولة" في كل التجارب العربية الحديثة، وما يتخطاها من دول في العالم الثالث.
وأحسب أنه من غير المتوقع لحكومة نتنياهو في لحظة الغطرسة والكبر والاستعلاء أن تفكر بعقل بارد في هذه المشكلات الساخنة، وأرجح أن إسرائيل سيجن جنونها، وستلجأ إلى نظرية "أن ما لا يتحقق بالقوة سيتحقق بالمزيد منها"، وستعتمد سياسة الاستباحة وسيناريو غزة والضاحية الجنوبية ضد القرى والبلدات المقاومة في جنوب سوريا، وستعتمد على تفوقها الجوي والتكنولوجي في كل مرة تستشعر فيها خطرًا على جنودها وضباطها، لكن حبل الغطرسة قصير مهما طال واستطال.
أما الذين في قلوبهم زيغ، ممن استسهلوا الارتماء في أحضان عدو بلادهم القومي، واستمرؤوا طعم الرعاية والحماية، فنحيلهم إلى المصائر البائسة التي انتهى إليها من سبقوهم على دروب العمالة والتعاون مع الاحتلال، وطلب الحماية من دولة النازيين الجدد والقدامى، لعلهم يستبصرون ويرتدعون قبل فوات الأوان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة موقف الموقع (أخبار سوريا الوطن1-الجزيرة)