مع كل تحول تشهده المجتمعات، يظهر أفراد يدّعون الانتساب إلى الثورة أو التغيير، لكنهم في الواقع يعيدون إنتاج نفس الخطابات والمبررات والبنى القديمة التي ثاروا عليها. هؤلاء هم "الشبيحة الجدد"، الذين يمثلون أزمة أخلاقية عميقة في سوريا، لا تقل خطورة عن "شبيحة" نظام الأسد.
على الرغم من خلفياتهم الإعلامية أو الثقافية، ومعرفتهم بانتهاكات السلطة الانتقالية العسكرية والأمنية ضد السوريين، فإنهم ينكرون هذه الجرائم أو يتلاعبون بتوصيفها. تصل هذه السيكولوجيا إلى حد استخدام التشكيك والكذب العلني، أو تبرير الفظائع بشكل سخيف.
المفارقة المحزنة أن الكثيرين يدركون أن ما حدث هو أفعال جرمية ممنهجة (تعذيب، اعتقال تعسفي، قتل خارج القانون، تصفيات ميدانية، وانتهاك للكرامة الإنسانية)، باسم "الثورة" أو "الحفاظ على مكتسبات التغيير". ومع ذلك، يختارون أن يكونوا في صف السلطة، مكررين خطابها التبريري أو متبرعين بإيجاد تبريرات تافهة وسطحية، تنتمي إلى خطاب تلفيقي عرفه السوريون في إعلام سلطة العصابة الأسدية.
لماذا يفعل هؤلاء ذلك؟ الإجابة تكمن في سيكولوجيا "الشبيح الجديد"، الذي لم يتحرر من عقدة الرغبة في امتلاك القوة وإخضاع الآخرين لها، حتى لو ارتكبت هذه القوة الفظائع. إنه يريد أن يكون المنتصر بعد أن كان الضحية، لكنه لا يريد أن يصدم بانهيار الصورة المثالية التي رسمها للثورة أو لما يعتقد أنه "تحرير".
بالنسبة له، الاعتراف بالانتهاك هو طعنة في قلب السردية التي اعتنقها عن طهرانية "ثورته" وقدسية "الشهداء" ونبل "التحرير"، حتى لو تحول هذا "التحرير" إلى نسخة أخرى من السيطرة الأمنية والاستبداد، ولكن بأدوات مختلفة وشعارات دينية هذه المرة.
يخشى هؤلاء من أن يؤدي الاعتراف بالجرائم إلى تساقط صورة "الوطني الضحية" أو "الثائر النبيل"، الذي دفع ثمنًا من روحه ودمه وأهله من أجل كرامة المجتمع. لكن ما لا يريدون رؤيته هو أن تلك الكرامة يعاد دفنها مجددًا تحت ركام الانتهاكات، وأن ما جنوه هو سلطة جديدة إقصائية مستأثرة، تعيد إنتاج منظومة الدولة الأمنية، ولكن برموز وأدوات جديدة تتصدرها فئة واحدة مستأثرة، داست على معاناة السوريين والأثمان التي دفعوها ليحققوا التغيير، وتاجرت بها.
إنها أزمة أخلاقية حين يصبح إنكار الجريمة والتعامي عن بناء منظومة سلطوية جديدة هو الموقف الأخلاقي في نظرهم، وحين يتحول الدفاع عن الباطل إلى شكل من أشكال "الواقعية السياسية". لكنها اللحظة التي يختار فيها المرء الكذب على نفسه ومجتمعه على أن يواجه الحقيقة، التي تؤشر إلى أن المسار انحرف كليًا، وأن الثورة صودرت، وأن أدوات العنف صارت تستخدم باسم "الدين" وتكريس سلطة "المنظومة الحاكمة"، تمامًا كما كانت تُستخدم باسم "الوطن" و"القائد".
بدلًا من أن يستمر هؤلاء في النضال لتصويب المسار، أو فضح ما يجري من انحرافات رغم وجود مناخ لا يزال يتاح فيه للناس حق الكلام حتى الآن على الأقل، فإنهم اختاروا التكيف مع الواقع الجديد، وتقديم الولاء غير المشروط للسلطة الصاعدة، لا فرق عندهم إن كانت هذه السلطة تلبس بدلة عسكرية، أو تطيل لحيتها وتدّعي الورع، فالثابت الوحيد في ذهنية هؤلاء هو أنه طالما أن السلطة آلت إلى "السنّة" فهي على حق بالضرورة في كل ما تقوله وما تفعله.
هؤلاء ليسوا إلا نسخة مشوهة من "الشبيحة القدامى"، وهم لا يختلفون كثيرًا عن أولئك الذين كانوا يرقصون في شوارع دمشق وهم يحملون صور طاغيتهم الفارّ، كلاهما ينكر الجريمة أو يجد لها مسوغًا وطنيًا، وكلاهما يشيطن ضحاياه، وكلاهما يعمل على تشويه الحقيقة وتزييف الوعي العام، الفرق الوحيد أن هؤلاء المستجدون يحملون لغة "الثورة" ويستعيرون رموزها، لكنهم يدوسون على مبادئها عند أول مفترق، وهو ما هيأ البيئة المناسبة لخلق طبقة من "المطبلين" ممن يصوغون خطابًا إعلاميًا لا هدف له إلا تلميع صورة السلطة الجديدة، وشيطنة كل من يطالب بالعدالة والمحاسبة وبالشفافية وبالشراكة الوطنية.
لا يتوهمن أحد أنه يمكن لأي مشروع تحرري أن ينجو إذا اكتفى باستبدال طاغية بآخر، أو سلطة أمنية بأخرى، و ما لم يواجه السوريون الحقيقة عارية كما هي، ويعترفوا أن ما وصلنا إليه هو شيء مغاير لما كنا نسعى إليه، ويملكوا اعتقادًا راسخًا بإمكانية تصويب الأمور والمسارات من خلال العمل الدؤوب الذي يحول دون أن ترسخ هذه السلطة دعائم استبداد جديد تبدو متلهفة لبنائه، واليقين بأن هذا الوطن ليس "للسنّة" وحدهم، بل لجميع السوريين على السواء، وأن القانون قيمة عليا حري بالجميع حاكمين ومحكومين الامتثال له والخضوع لمقتضياته، عندها أعتقد أننا نكون قد وضعنا أقدامنا على العتبات الأولى لسوريا التي ينبغي أن تكون.
بقلم: غزوان قرنفل