حلب – محمد ديب: بعد سقوط نظام حكم بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024، توقف العمل بالمراسيم التي أصدرها الرئيس السابق بشأن التعامل بغير الليرة السورية، مما أتاح حرية التعامل بالعملات الأجنبية، خاصة الدولار الأمريكي والليرة التركية، وأصبح تداولها أمرًا شائعًا. لكن هذه "الحرية المالية" حملت معها تحديات جديدة أربكت السوق وأثرت على المستهلكين والباعة، سواء بوجود عملات مزورة أو تذبذب وانخفاض أسعار الصرف.
في محيط قلعة حلب، المنطقة التي استعادت نشاطها التجاري والسياحي، أصبح الدفع بالدولار أو الليرة التركية أمرًا معتادًا، حتى في المقاهي الصغيرة.
“تزوير وتفاوت بالتصريف”
قال عصام، مدير أحد المقاهي بالقرب من القلعة، إن عددًا كبيرًا من الزبائن، خصوصًا المقيمين في الخارج، يفضلون الدفع بالدولار الأمريكي مباشرة. وأضاف: "نتعامل معهم ونصرف الدولار بسعر أقل من السوق، لأننا لسنا مكتب صرافة رسميًا، وأسعار الدولار متقلبة باستمرار، لذا نحدد السعر الذي يناسبنا، وغالبًا لا يسبب ضررًا كبيرًا للزبون". وأوضح أن السعر الذي يعتمده المقهى غالبًا ما يكون أقل من سعر السوق بنحو 500 ليرة سورية، مؤكدًا أن الزبون غير ملزم بالتصريف لديه.
مصطفى، صاحب مقهى آخر في حلب، تحدث عن انتشار حالات تزوير الدولار، لا سيما من الفئات الكبيرة مثل ورقتي 50 و100 دولار، مشيرًا إلى أن الكثيرين لا يملكون الخبرة الكافية للتأكد من صحة العملة، مما يجعلهم عرضة للنصب.
أحد رواد المقاهي، وهو مقيم بمدينة اعزاز، اشتكى من أن أصحاب المحال في حلب يتعاملون وفق أهوائهم، ويضعون سعر صرف أعلى من الأسعار المتداولة في مناطقهم، داعيًا إلى تدخل مديريات السياحة والتجارة الداخلية وحماية المستهلك لتوحيد نشرة أسعار الصرف في المقاهي والمحال العامة خاصة في حلب القديمة. واعتبر أن هذا التفاوت يخلق حالة من الغبن المالي، خاصة لذوي الدخل المحدود.
من جانبها، قالت راما، خريجة كلية الاقتصاد من جامعة حلب، إن غياب سلطة نقدية موحدة في سوريا يفتح السوق أمام احتمالات غير محسوبة، معتبرة أن الاعتماد المتزايد على العملات الأجنبية يستدعي وجود جهة رقابية مالية تضبط عمليات الصرف، وتحد من عمليات التزوير والتلاعب بسعر الدولار في السوق المحلية.
“نعناع”
في عهد حكم الأسد، أدى التضييق على الحوالات وانتشار السماسرة إلى تحويل عملية تسلم الأموال من الخارج إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر، في ظل الخوف من المؤسسات الأمنية واستمرار تقييد التعامل بالعملة الأجنبية. كان السوريون في مناطق سيطرة النظام السابق يستخدمون أسماء وتوصيفات بديلة عن الدولار، تجنبًا لخطر الاعتقال، ومنها "الأخضر" أو "النعناع"، فمجرد حيازته جريمة.
تستذكر هبة ما حصل معها في أوائل كانون الثاني 2024، إذ لم تكن تتوقع أن تسلمها حوالة مالية بقيمة 1.8 مليون ليرة سورية (نحو 150 دولارًا أمريكيًا)، من أحد مكاتب الصرافة "غير المرخصة" في حي الشيخ مقصود، سيقودها إلى زنزانة مظلمة لساعات طويلة. خلال عودة هبة (38 عامًا) إلى منزلها، أوقفها حاجز تابع لـ"أمن الدولة" عند مدخل حي الشيخ مقصود، وجرى تفتيشها من قبل العناصر، وصادروا المبلغ بحجة أن "المكتب غير مرخص، وأن الأموال يجب أن تذهب إلى خزينة الدولة". وأُجبرت هبة لاحقًا على التنازل عن المبلغ رسميًا، قبل أن يفرج عنها بعد تدخلات ودفع "غرامات غير رسمية (تحت الطاولة)". وتعتقد هبة أن الأجهزة الأمنية كانت على تنسيق مسبق مع المكتب "غير المرخص".
الدولار ممنوع.. “جريمة”
تعامل النظام السوري السابق على مدى سنوات مع استخدام العملات الأجنبية، وخاصة الدولار الأمريكي، بوصفه "جريمة اقتصادية"، وعزز هذا التوجه بسلسلة مراسيم وقرارات متتالية شددت العقوبات على كل من يتعامل بغير الليرة السورية داخل البلاد. ففي عام 2013، أصدر الأسد المرسوم التشريعي "54" الذي منع بموجبه التعامل بغير الليرة السورية وجرّم التعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للدفع أو التسديد في المعاملات التجارية. ونص المرسوم على عقوبات مشددة، تشمل الحبس والغرامات المالية ومصادرة الأموال المتداولة، بهدف "حماية العملة الوطنية".
وفي كانون الثاني 2020، صدر مرسومان تشريعيان شددا الرقابة والعقوبات على التعامل بغير الليرة السورية. المرسوم رقم "3" عدّل المادة الثانية من المرسوم "54" لعام 2013، وفرض عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة لمدة لا تقل عن سبع سنوات، وغرامة تعادل مثلي قيمة المبلغ أو الخدمة المتداولة، بحق كل من يستخدم عملات أجنبية أو معادن ثمينة في التداولات المالية داخل البلاد. أما المرسوم رقم "4" فنص على معاقبة كل من يروّج معلومات كاذبة أو مضللة تؤثر على سعر صرف الليرة أو على الثقة المالية العامة، بالسجن والغرامة التي قد تصل إلى خمسة ملايين ليرة سورية، مع منع إخلاء السبيل خلال مراحل التحقيق والمحاكمة.
وفي كانون الثاني 2024، أصدر الأسد مرسومين جديدين، شددا الرقابة على التعامل بغير الليرة السورية وتشديد العقوبات على مزاولة مهنة الصرافة بغير ترخيص.