الإثنين, 15 سبتمبر 2025 09:22 PM

تركيا على صفيح ساخن: هل يطيح القضاء بحزب الشعب الجمهوري المعارض؟

تركيا على صفيح ساخن: هل يطيح القضاء بحزب الشعب الجمهوري المعارض؟

تترقب الأوساط السياسية والشعبية في تركيا بحذر قراراً قضائياً مصيرياً قد يعيد رسم الخريطة السياسية. فمنذ تأسيسها، نظرت المحكمة الدستورية التركية في 47 قضية لحلّ أحزاب سياسية، أُغلقت غالبيتها بعد انقلاب عام 1981، واستُهدفت بشكل خاص الأحزاب المنبثقة عن الحركة الكردية والتيار الإسلامي. حتى "حزب العدالة والتنمية" نفسه واجه دعوى إغلاق عام 2008، ونجا بأعجوبة.

تتجه الأنظار إلى المحكمة المدنية 42 في أنقرة، التي تبتّ في دعوى تطالب بإبطال نتائج المؤتمر العام لـ"حزب الشعب الجمهوري" الذي انعقد في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وأسفر عن انتخاب أوزغور أوزيل رئيساً للحزب خلفاً لكمال كليجدار أوغلو. ومن المقرر أن يصدر القرار اليوم الإثنين.

هذا النزاع القضائي ليس مجرد خلاف إجرائي، بل هو اختبار حقيقي لفصل السلطات في تركيا. وتتمحور القضية حول مخالفات إجرائية مزعومة خلال المؤتمر الحزبي، بما في ذلك اعتراضات على اختيار المندوبين وآليات التصويت. ورغم تأكيدات السلطة، وعلى رأسها الرئيس رجب طيب أردوغان، بأن الدعوى قضائية وخلاف داخلي في الحزب المعارض، إلا أن الرأي العام لا يزال يشكك في وجود دوافع سياسية لإضعاف المعارضة وتهديد شرعية قيادتها المنتخبة ديمقراطياً.

هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية للحكم المرتقب، أخطرها هو الحكم "بالبطلان المطلق"، ما يعني تجريد أوزيل من منصبه وإعادة كليجدار أوغلو إلى رئاسة الحزب. ويرى منتقدو هذا الخيار أنه لا يستند إلى أساس قانوني في قانون الأحزاب السياسية التركي، بينما يعتبره أنصار كليجدار أوغلو وسيلة لاستعادة السلطة. وقد يدفع هذا السيناريو الحزب إلى أزمة شرعية غير مسبوقة، وربما يؤدي إلى انشقاق داخله مع ترجيح كفة أوزيل، ما قد يعني زوال "حزب الشعب الجمهوري" وظهور حزب جديد.

السيناريو الثاني هو تعيين لجنة وصاية محايدة لتنظيم مؤتمر جديد خلال 45 يوماً. ورغم مظهره المحايد، إلا أن هذا الخيار قد يُستغل لخدمة أجندات سياسية، خاصة إذا كانت اللجنة مقربة من السلطة الحاكمة. ويرى الحزب أن هذا الحكم يمثل انتهاكاً لاستقلالية الأحزاب السياسية المنصوص عليها في الدستور.

أما السيناريو المتوقع من قبل مصادر "حزب الشعب الجمهوري"، فهو تأجيل المحكمة لقرارها وإبقاء الوضع على حاله بهدف زيادة التوترات داخل الحزب وتحريض حالة عدم اليقين السياسي. وقد يكون هذا السيناريو وسيلة لامتصاص غضب الشارع وتجنب المواجهة المباشرة.

في المقابل، يطالب "حزب الشعب الجمهوري" المحكمة برفض الدعوى، إذ يرى خبراء قانونيون أن المحاكم المدنية لا تملك صلاحية التدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب السياسية، خاصة بعد مصادقة المجلس الأعلى للانتخابات على شرعية المؤتمر.

تصاعدت أزمة "حزب الشعب الجمهوري" منذ فوزه في الانتخابات المحلية لعام 2024، وتصدره غالبية البلديات الكبرى. ويرى أنصاره أن هذه الانتصارات أغضبت السلطة وأدت إلى حملة قمع ضد قادة الحزب، حيث اعتُقل العشرات من رؤساء البلديات والمسؤولين المنتمين لـ"الشعب الجمهوري"، أبرزهم رئيس بلدية إسطنبول السابق أكرم إمام أوغلو. وأثارت هذه الاعتقالات احتجاجات واسعة، واعتبرها الحزب محاولات لإضعاف المعارضة وإسكاتها. وتتراوح التهم الموجهة إليهم بين الفساد و"الارتباط بالإرهاب"، وهي تهم يعتبرها غالبية الأتراك ذات دوافع سياسية.

كما أقالت محكمة في إسطنبول قيادة فرع الحزب وعينت لجنة وصاية برئاسة غورسل تكين. هذه الخطوة، التي وصفها الحزب بأنها "بروفة" لما قد يحدث في أنقرة، أدت إلى مواجهة مع الشرطة واعتصامات. واتخذ الحزب خطوات تكتيكية مثل نقل مقره يومياً لإبطال سلطة الوصي، في إشارة إلى أن المقاومة لن تكون قضائية فقط، بل شعبية وسياسية أيضاً.

منذ توليه القيادة، برز أوزيل كمعارض شرس لأردوغان، ونجح في حشد الآلاف من أنصاره عبر تجمعات شعبية، واصفاً الأزمة بأنها "معركة من أجل البقاء الديمقراطي". ويُنظر إلى تحديه العلني على أنه نقيض لموقف كليجدار أوغلو المتراخي في مواجهة أردوغان، ما أكسبه شعبية لدى الناخبين الشباب والعلمانيين في المدن الكبرى.

في المقابل، التزم كليجدار أوغلو الصمت، رافضاً إدانة سيناريو "البطلان المطلق". تصريحاته التي تلمح إلى استعداده للعودة أثارت قلقاً داخل الحزب، واعتبرها محللون سعياً منه لتقديم نفسه كـ"قوة استقرار"، بينما يتهمه آخرون بالتواطؤ مع السلطة لإضعاف أوزيل.

لا تقتصر تداعيات هذه الأزمة على "حزب الشعب الجمهوري"، بل تمتد لتؤثر على المؤسسات الديمقراطية والاقتصاد التركي ومكانته الدولية. ويرى الخبراء أن هذه الأحداث تمثل "منعطفاً حرجاً في تاريخ الديمقراطية التركية". فالتاريخ الديمقراطي التركي لم يشهد هذا الحجم من القمع ضد المعارضة، والتضييق على حزب صوّت له نصف الناخبين، ما يحمل خطر تراجعها من نظام هجين إلى نظام سلطوي كامل.

تؤجج الأزمة الانقسامات داخل "حزب الشعب الجمهوري" نفسه، وتزيد من الاستقطاب السياسي في البلاد، وتدفع بالمعركة بين السلطة والمعارضة إلى مستويات غير مسبوقة. كما أن تعطيل عمل البلديات التي يقودها "الشعب الجمهوري" قد يؤثر سلباً على الخدمات المقدمة للمواطنين، ما يزعزع ثقة الناخبين في مؤسسات الدولة.

اقتصادياً، أدت الأزمة السياسية إلى تقلبات في الأسواق المالية، حيث هبطت قيمة الليرة التركية بنسبة 2% بعد تعيين الوصي على فرع الحزب في إسطنبول. ويخشى المستثمرون من أن يؤدي أي حكم ضد أوزيل إلى مزيد من عدم الاستقرار، ما قد يفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد بالفعل. ويربط الخبراء بين الاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي، فكلما زادت حدّة المواجهة بين الحكومة والمعارضة، زادت مخاطر هروب رؤوس الأموال وتباطؤ الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ما قد يعيق جهود الحكومة في جذب الاستثمار وتحقيق النمو الاقتصادي.

تُظهر هذه الأزمة مدى هشاشة المؤسسات الديمقراطية في تركيا. وبغض النظر عن الحكم الذي سيصدر، فإن تداعيات هذه الأزمة ستستمر في تشكيل مستقبل السياسة والاقتصاد في البلاد لسنوات مقبلة. فهل ستنجح المعارضة في الصمود أمام الضغوط القضائية والسياسية، أم أن هذا الحكم سيفتح الباب أمام مرحلة جديدة من السيطرة الحكومية على الحياة السياسية؟

مشاركة المقال: