عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، وعلى الرغم من التقارير التي تظهر بين الحين والآخر حول وجود "تباينات" في المواقف بين واشنطن وتل أبيب، خاصة فيما يتعلق بالحرب على غزة وتداعياتها على المنطقة، سرعان ما يتضح أن العلاقة التي تربط الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالكيان تتجاوز "التحالف" الاعتيادي بين دولتين.
بينما يرى بعض المراقبين أن الطابع الأيديولوجي والديني قد طغى منذ القدم على السياسات الخارجية الأمريكية، مشيرين إلى وجود رابط بين هذا الطابع ونشوء الولايات المتحدة والإبادات التي ارتكبتها بحق الشعوب الأصلية، جاءت ممارسات إدارة دونالد ترامب الأخيرة ومواقف مسؤوليها المتطرفة لـ"ترسخ" هذه النظرية.
على سبيل المثال، سارع بعض المقربين من ترامب في شباط الماضي إلى "تبرير" تصريحاته بأن الفلسطينيين "لن يكون لهم حق العودة إلى قطاع غزة" بموجب خطته التي تقضي باستيلاء الولايات المتحدة على القطاع الفلسطيني، بحجة أنهم "سيحصلون على مساكن أفضل بكثير". ومنذ ما قبل عملية السابع من أكتوبر، تبنت إدارة ترامب وجهة نظر داعمة لإسرائيل تجاه المستوطنات اليهودية؛ ففي عام 2019 مثلاً، أعرب وزير الخارجية آنذاك، مايك بومبيو، عن عدم موافقته على موقف وزارة الخارجية لعام 1978، قائلاً إن المستوطنات المدنية في الضفة الغربية "لا تتعارض في حد ذاتها مع القانون الدولي، وليست عقبة أمام عملية السلام".
أما اليوم، فباتت واشنطن تتبنى بوضوح النظرية القائلة إن أي دولة فلسطينية يتم الاعتراف بها "تتعارض مع مساعي السلام"، وتلوح بتحميل حلفائها الذين يتبنون قيام هذه الدولة "عواقب قاسية"، وإن عبر التلويح أحياناً بـ"العصا الغليظة الإسرائيلية"، كما حصل مع قطر. وفي شباط من عام 2023، ذهب بومبيو، في مقابلة إذاعية، أبعد من ذلك، لافتاً إلى أن "معتقداته الدينية والمصالح الإستراتيجية الأميركية" تقضي بدعم إسرائيل.
وزعم أن "إسرائيل ليست دولة محتلة"، مضيفاً "أنني كمسيحي إنجيلي، مقتنع عبر قراءتي للكتاب المقدس أنه بعد مرور 3 آلاف عام، ورغم إنكار الكثيرين، فإن هذه الأرض هي الوطن الشرعي للشعب اليهودي". وفي مقابلة مع وكالة "بلومبرغ" في حزيران، أكد السفير الأميركي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، أن الولايات المتحدة "لم تعد تسعى إلى تحقيق هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة"، مقترحاً، في تصريحات منفصلة، أن "تتخلى دول إسلامية عن بعض أراضيها لإقامة دولة فلسطينية مستقبلية".
وكانت شبكة "بي بي سي" البريطانية قد نشرت عام 2023 تقريراً جاء فيه أن "المحافظين الإنجيليين يشكلون جزءاً أساسياً من ائتلاف الحزب الجمهوري"، وأن "هؤلاء الناخبين المتدينين والسياسيين لديهم ارتباط عميق بدولة إسرائيل". ونقلت الشبكة عن كريستوفر رولستون، الباحث الديني في "جامعة جورج واشنطن"، قوله إن "هناك شعوراً قوياً في أوساط الإنجيليين بأن الشعب اليهودي هو شعب الله المختار".
وأردف التقرير أن "الرئيس الجمهوري الجديد لمجلس النواب الأميركي، مايك جونسون، يتمتع بعلاقات إنجيلية قوية"، وكان واحداً من بين عدد قليل من السياسيين الذين تحدثوا أمام حشد من المنظمين يقدر عددهم بمئات الآلاف في فعالية "مسيرة من أجل إسرائيل" في واشنطن، واصفاً الحرب بين إسرائيل و"حماس" بـ"الصراع بين الخير والشر، بين النور والظلام، بين الحضارة والهمجية"، في اقتباس عن تصريحات سابقة لرئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو.
وأخيراً، جاء لقاء وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، بنتنياهو، ليقطع الشك باليقين حول "الضوء الأخضر" الأميركي الذي أعطي، منذ بداية حرب الإبادة في غزة، إلى الجانب الإسرائيلي، والذي وصل أخيراً حد استهداف الأراضي القطرية، و"إحراق" مدينة غزة. وفيما كانت الدبابات الإسرائيلية تشق طريقها إلى المدينة، بعد ساعات من زيارة روبيو، والضربات الجوية توقع المزيد من القتلى المدنيين، حذر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، "حماس" من "إيذاء الرهائن الإسرائيليين الأحياء الذين لا تزال تحتجزهم"، ليرد عليه نتنياهو ببيان يشكره فيه على "دعمه الثابت لمعركة إسرائيل ضد (حماس) وإطلاق سراح جميع رهائننا".
وبينما كان زعماء العرب والمسلمين مجتمعين في الدوحة لـ"إدانة الهجوم الإسرائيلي" الذي وقع الأسبوع الماضي، وفي الوقت الذي تستعد فيه إسرائيل لمواجهة إدانة دولية أوسع في الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي من المتوقع أن تعترف عبرها معظم دول العالم بالدولة الفلسطينية، وقف روبيو "كتفاً إلى كتف" مع نتنياهو، ليؤكد دعم بلاده للإبادة الإسرائيلية، مقللاً من أهمية "الغضب" الذي أثاره الاعتداء الإسرائيلي على قادة "حماس" في الدوحة. وفي حديث مع شبكة "فوكس نيوز" بالتزامن مع الزيارة، قال روبيو: "نحن نفهم أنهم غير سعداء بما حدث، لكن لا تزال لدينا (حماس)، ولا يزال لدينا رهائن، ولا تزال لدينا حرب. ولا يزال يتعين التعامل مع كل هذه الأمور، ونأمل أن تستمر قطر وجميع شركائنا في الخليج في إضافة شيء بنّاء".
وفي تقويض واضح لأي إستراتيجية تضع إنهاء الحرب في غزة على سلم أولويات السياسة الخارجية، قال روبيو في مؤتمر صحافي مع نتنياهو: "علينا أن نتذكر مع من نتعامل هنا، هذه مجموعة من الأشخاص الذين كرسوا حياتهم للعنف والهمجية"، مضيفاً أنه "عندما نواجه هذا الواقع الصعب، وبقدر ما نتمنى أن تكون هناك طريقة سلمية ودبلوماسية لإنهائه، سنواصل استكشافها والالتزام بها، إلا أنه يتعين علينا أيضاً أن نكون مستعدين لاحتمال عدم حدوث ذلك". ومن جملة الأمور الأخرى التي قلل روبيو من شأنها في أثناء لقائه "التضامني" مع نتنياهو، المخاوف الأميركية بشأن العمليات الإسرائيلية الأخيرة في مدينة غزة، وسط حديث مصادر إلى وسائل إعلام عن أن واشنطن تؤيد هذه العملية "ولم تبد أي اعتراض عليها".
إلى ذلك، في محاولة، على ما يبدو، لإظهار "اتساق كامل" بين واشنطن وتل أبيب، ورغم ادعاء البيت الأبيض أنه لم يتم إخباره بالضربة على قطر إلا بعد انطلاق الصواريخ في الهواء، قال سبعة مسؤولين إسرائيليين لموقع "أكسيوس" إن البيت الأبيض "كان على علم بالعملية في وقت سابق"، وتحديداً الثلاثاء الماضي. وزعم أحد هؤلاء المسؤولين أنه "في البداية، كان النقاش على المستوى السياسي بين نتنياهو وترامب، وبعد ذلك عبر القنوات العسكرية، فيما لم يقل ترامب (لا)" للضربة. وبحسب المصادر نفسها، كانت إسرائيل "ستلغي الضربة، في حال اعتراض ترامب عليها".