جاد حجار - في مقابلة مع الإعلامي تاكر كارلسون، استشهد السيناتور تيد كروز بنص من الإنجيل لتبرير دعمه لإسرائيل، مدعياً أن «من يبارك إسرائيل يباركه الله». ومع ذلك، فإن النصوص التوراتية التي استند إليها لا تذكر «إسرائيل» صراحة، بل تتحدث عن بركة عامة للبشرية عبر نسل إبراهيم، الذي يشمل المسلمين والمسيحيين أيضاً.
أثناء استضافة المذيع الأميركي تاكر كارلسون للسيناتور الجمهوري الأميركي تيد كروز، اقتبس الأخير من الإنجيل قائلاً: «لقد تعلمت من الصفوف الدينية نهار الأحد أن: من يبارك إسرائيل، فإن الله سوف يباركه. ومن يلعن إسرائيل، سيلعنه الله»، مضيفاً أنه لا يرغب في أن يكون من الملعونين.
هنا سأله كارلسون: ماذا تعني بإسرائيل من وجهة نظر مسيحية؟ هل طلب الله منا مساعدة نتنياهو؟ فأجاب السيناتور: «نعم مطلوب منا مساعدة أمة إسرائيل».
يبدو أن كروز قد اقتبس من سفر التكوين: 12 2-3 الذي يقول: «وقال الرب لابرام: «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك، وتكون بركة. وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض. فذهب ابرام كما قال له الرب وذهب معه لوط. وكان ابرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران. فأخذ ابرام ساراي امرأته، ولوطاً ابن اخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا والنفوس التي امتلكا في حاران. وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان. فأتوا إلى أرض كنعان».
علينا التوضيح أولاً أن ابرام هو النبي إبراهيم، وهو نبي جميع الأديان التوحيدية، ولا علاقة للكيان الإسرائيلي المستحدث بأمة إبراهيم لا من قريب ولا من بعيد، وذكر في المقطع أعلاه: «وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض». وبهذا يعني البشرية جمعاء، ولن يحشر الله البشرية جمعاء في الكيان الإسرائيلي بالطبع! وهذا ما يدحض جواب كروز بأن الله يعني أمة إسرائيل، ولا وجود للفظ إسرائيل في كل المقطع أعلاه.
مقطع آخر من سفر التكوين 22: «ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال: «بذاتي أقسمت يقول الرب، إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك ابنك وحيدك. أباركك مباركة، وأكثر نسلك كثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض، من أجل أنك سمعت لقولي. ثم رجع إبراهيم إلى غلاميه، فقاموا وذهبوا معاً إلى بئر سبع. وسكن إبراهيم في بئر سبع».
نلاحظ أن الإنجيل يذكر بشكل واضح أن الرسالة الإبراهيمية موجهة إلى كل شعوب الأرض وليس لليهود حكراً، ويفسر الرسول بولس في العهد الجديد بأن: «لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ (…)» لاَ يَقُولُ «وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ. وَ«فِي نَسْلِكَ» الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ»، أي إن رسالة إبراهيم تتجسد في المسيح، الذي لا يعترف به اليهود، فتلك المباركة لأمة إبراهيم يعني فيها المسيحيين وليس إسرائيل كما يدعي الصهاينة، وفي المناسبة إن المسلمين أيضاً هم من سلالة إبراهيم!
في القرن السابع عشر، قبل ثلاثة قرون على تأسيس الحركة الصهيونية العالمية، برز فيلسوف هولندي يهودي غير مسار الفلسفة واستبق خطر الدولة الصهيونية اسمه باروخ سبينوزا. كان سبينوزا على وعي بأن مشكلة اليهود في أوروبا باعتبارهم أقلية مضطهدة هي أن شريعتهم ذات الأصل السياسي تعزلهم عن المجتمع المحيط بهم، وتجعلهم جماعات داخل الدولة، وتدفع المجتمعات المحيطة بهم إلى معاملتهم ككيان غريب لا يمكن استيعابه نظراً إلى تناقض طبيعة الشريعة اليهودية مع المبادئ التي تقوم عليها الدولة الحديثة.
وهذا هو أصل «المسألة اليهودية» التي كان سبينوزا أول من تعامل معها بتقديم حلول، تعالج المسألة من جهة الجماعة اليهودية المنغلقة على نفسها والتي تريد من الدولة المحيطة معاملتها كطائفة دينية – سياسية، ومن جهة الدولة التي يجب أن تكون محايدة تجاه كل الأديان. من هنا أنجز سبينوزا كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» ليؤسس لدولة المواطنة التي يتساوى فيها كل مواطنيها في الحقوق والواجبات، والتي تحمي كل الأديان على السواء وتحافظ على حق ممارسة الشعائر الدينية، من دون أن يعيق هذا الحق الدولة عن القيام بوظائفها. أراد سبينوزا من مشروعه أن يحيّد كل الطوائف الدينية، يهودية وكاثوليكية، ويعزلها عن مجال الدولة الذي أراد له أن يكون مجالاً محايداً، وإلا انهارت فكرة الدولة ذاتها وصارت ألعوبة في يد القوى الدينية.
لكن ظهرت الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر بمبادئ مناقضة تماماً لما دعا إليه سبينوزا، إذ عادت إلى أفكار الخصوصية اليهودية، التي فسرتها بأنها خصوصية تاريخية وسياسية، وشددت على إبراز المسألة اليهودية. وبدلاً من أن تعالج هذه المسألة إدماج اليهود في الدول المحيطة ببرنامج العلمنة المزدوجة لليهود وللدول الحاوية لهم، عالجتها بفكرة مناقضة لمبدأ الإدماج وهي الانفصال عن المجتمعات الأوروبية وتأسيس دولة يهودية خارج أوروبا. وتتمثل المفارقة هنا في أن فلسفة سبينوزا، اليهودي المارق المنبوذ من جماعته، كانت هي الوحيدة التي وقفت ضد فكرة الدولة اليهودية.
ينطلق سبينوزا من النصوص المقدسة عند اليهود، فالوحي الذي أنزل على موسى أتى بعدما قتل الفراعنة اليهود، ففروا إلى صحراء سيناء. وهناك وعدهم موسى بدولة عادلة لهم، شرط أن يطيعوا تعاليمه أي تعاليم الله. ثم نظم شؤون هذه الجماعة عندما انضمت في اتحاد سياسي؛ ما يعني أن هذه الشريعة لم تكن صالحة ولا فعالة إلا في وجود الكيان السياسي اليهودي القديم. أما بعد انتهاء هذا الكيان عن الوجود، فلا يجب الاحتفاظ من هذه الشريعة إلا بجانبها الأخلاقي الصرف الذي يتفق مع المبادئ الأخلاقية الإنسانية العامة المشتركة لدى كل الشعوب.
أما عن المصدر الإلهي للشريعة اليهودية، فإن سبينوزا لا ينكره، ولكنه ينظر إليه على أنه كان نتيجة عقد اجتماعي بين العبرانيين والنبي موسى والإله، أو «عهد» كما يقال في اللغة الدينية. وهو اتفاق بين العبرانيين وموسى بأن يعبدوا إلهاً واحداً وينفذوا أوامره، وفي المقابل ينعم الإله عليهم بالبركة ويرزقهم ويدافع عنهم في حروبهم ويعطيهم الأرض. إلا أنه بعد موت النبي موسى، صاروا يحتلون أراضي جيرانهم، وصاروا طغاة وأثرياء فعاقبهم الله بالشتات إلى يوم القيامة.
يقدم لنا سبينوزا نظرة مختلفة تماماً للشريعة اليهودية: لقد نشأت لديه نتيجة عقد اجتماعي، بين اليهود والإله، بتوسط موسى. قد تكون هذه الفكرة غريبة، لكن سبينوزا يدعمها بشواهد من العهد القديم ومن تاريخ اليهود: إن كلمة «عهد» ذاتها تعني «عقد»، أو تعاهد، بين الإله واليهود، والكلمة مذكورة كذلك في القرآن في ما يخص بني إسرائيل: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» (البقرة 40). كذلك ترد كلمة «ميثاق» أكثر من مرة في الآيات الخاصة ببني إسرائيل. الشريعة اليهودية وفقاً لهذا التفسير السبينوزي، كانت لاهوتاً سياسياً.
يقول سبينوزا: «إذا لم تضعف مبادئ دينهم ذاتها قلوبهم، فإني أعتقد بلا أدنى تحفظ، عالماً بتقلبات الأمور الإنسانية، بأن اليهود سيعيدون بناء إمبراطوريتهم في وقت ما، وأن الله سيختارهم من جديد». هكذا استخدم الصهاينة تلك العبارة من أجل جعله في صفهم. إلا أن القارئ لكتابه يدرك جيداً بأنه يسخر من فكرة عودة الدولة اليهودية، فهو ضد أي دولة ثيوقراطية.
يأتي سبينوزا بعد ذلك مباشرة إلى الحديث عن إمكان إعادة تأسيس دولتهم، ويقول إن هذا ممكن طالما حافظ اليهود على شريعتهم وختانهم، وهذا نوع من التهكم والسخرية منهم، فالتعصب والانغلاق والاستعلاء على كل الأمم هي وحدها الأشياء الكفيلة بأن يعيد اليهود تأسيس دولتهم القديمة، كأن سبينوزا يقول لهم: ابقوا على استعلائكم ونبذكم للأمم الأخرى، وعلى تشددكم الديني وتصلبكم حول شعائركم وسوف تنجحون في يوم ما في إعادة تأسيس دولتكم.
أخرج الصهاينة عبارة سبينوزا المذكورة من سياقها، الذي هو سياق النقد والسخرية والتهكم، وتعاملوا معها بذاتها على أنها شعار، وقلبوا سبينوزا من عدو للدولة الدينية وناقد لخلط الدين بالسياسة وداعية إلى الدولة المدنية المحايدة تجاه الأديان، إلى داعية للصهيونية، في عملية تزوير وتزييف واضح للوعي، ولي لعنق النص كي ينطق بما يريدون منه، ولو كان النص يقول عكس ما يريدون وهادماً لأسس أيديولوجيتهم. إن الصهاينة سرقوا الأرض وسرقوا الفكر أيضاً، وضمن مسروقاتهم فلسفة سبينوزا.
إن فكرة دولة لليهود لا أساس لها في النصوص المقدسة جميعاً، ولا أساس حقوقياً لها، ولا منطقياً ولا اقتصادياً. بل إن تأسيس هذه الدولة يأتي على جماجم المستضعفين في كل العالم بأيدي كل أنواع الاستعمار السابق والحالي وممولاً من البترودولار.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار