الأربعاء, 27 أغسطس 2025 11:35 PM

غزة ليست بيروت 1982: دروس من الماضي في مواجهة الحاضر

غزة ليست بيروت 1982: دروس من الماضي في مواجهة الحاضر

في الذكرى الثالثة والأربعين لاحتلال بيروت من قبل القوات الإسرائيلية والحصار الذي عانته العاصمة اللبنانية، وخاصةً المنطقة الغربية منها، يبرز التشابه المؤلم مع حصار غزة اليوم. يستحضر هذا المقال صدى الماضي في الحاضر، مع التركيز على معاناة المدنيين والتحديات الإنسانية.

يصف محمود درويش في ديوانه «مديح الظل العالي»، الذي كتبه خلال حصار بيروت عام 1982، شعوره المحاصر: «بحر من أمامك، بحر خلفك، بحر فيك!». هذه الكلمات تعكس الواقع المرير الذي يعيشه سكان غزة اليوم.

بعد انسحاب «منظمة التحرير الفلسطينية» من لبنان عام 1982 إلى تونس، لم يبق في المخيمات الفلسطينية سوى المدنيين العزل. وفي 14 سبتمبر، اغتيل بشير الجميل، مما أدى إلى رد فعل عنيف من مجموعات موالية لإسرائيل، تحت رعاية أرييل شارون، وارتكاب مجزرة مروعة في مخيمي صبرا وشاتيلا، راح ضحيتها حوالي 4 آلاف شخص في يومين فقط.

التشابه بين غزة وبيروت وصبرا في الثمانينيات صارخ. فإذا استعرنا كلمات محمود درويش، نجد أن العنف هو نفسه والعدو بالشراسة نفسها. يقول «شاعر الأرض» في قصيدته «صبرا فتاة نائمة»: «لمَ ترحلون، وتتركون نساءكم في بطن ليل من حديد؟ لمَ ترحلون، وتعلّقون مساءكم فوق المخيم والنشيد». هذه الصورة تجسد معاناة النساء والأطفال الذين يواجهون العطش والجوع والتهجير.

ويتابع درويش: «كم مرّة ستسافرون، وإلى متى ستسافرون، ولأي حلم؟ وإذا رجعتم ذات يوم، فلأي منفى ترجعون؟». «لا برّ إلا ساعداك، لا بحر إلا الغامض الكحليّ فيك، اسحب ظلالك من بلاط الحاكم العربي».

بالتمعن في تفاصيل الحصار، نرى الجوع والعطش، ولكن الجرح الأعمق هو جعل الفرد منفياً في مكانه، هائماً بوجوده، لا يجد المعنى حتى لو عادت الحياة طبيعية.

لم يعد الموضوع مجرد قضية حقوقية، بل جرح وجودي يطال المحاصرين والمتفرجين على السواء. لقد أثبتت الأحداث ما قاله الفيلسوف توماس هوبز بأن «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان». لقد أُحرقت اتفاقيات حقوق الإنسان على معبر رفح، وأُعدمت البديهيات الإنسانية على أعتاب «مستشفى المعمداني». إن الإنسانية تعاني حالياً من الفصام.

كيف يمكننا محو ما تعلمناه من قيم تربوية وأخلاقية؟ إنه فخ كبير، لماذا لم يعلمونا أن القوي دائماً على حق؟ لقد قالها الشيخ إمام في سبعينيات القرن الماضي: «خلاص خلاص، ما فيش خلاص غير بالقنابل والرصاص، دا منطق العصر الحديث، عصر الزنوج والأميريكان».

إذا قرأنا ديوان «مديح الظل العالي» لدرويش عن حصار بيروت في عام 2025، نكاد نستبدل كلمة غزة ببيروت، فيصلح المعنى تماماً: نفس الوحشية ونفس الجروح ونفس التخلي والتآمر العربي والعالمي: «لا برّ إلا ساعداك، لا بحر إلا الغامض الكحليّ فيك، اسحب ظلالك من بلاط الحاكم العربي، حتى لا يعلّقها وساماً، واكسر ظلالك كلّها كي لا يمدّوها بساطاً أو ظلاماً».

لم تتوقف المجزرة منذ عام 1948، سواء كانت إعلامية أو نفسية أو اقتصادية. إنها حرب الغرب على أهل الأرض بتمويل بترودولار خليجي، ما أشبه بيروت الحصار بغزة.

رجال يصنعون الأسلحة من ركام بيوتهم ومن المتفجرات التي أُلقيت على عائلاتهم. يدركون أن ما يحملونه في صدورهم ألهم العالم، وسيلهبه، والمعركة ليست مباراة كرة قدم تنتهي بنتيجة خاسر ورابح. ما يفعله الغزيون سيشكل أثر الفراشة الذي سيجعل كل فرد في هذه الأرض يفكر بمظلوميته. تلك القضية الراهنة والأسمى ستكون مطرقة تدق عروش كل من سلم العالم لمنطق القوة والمال.

غزة ليست قطاعاً، ولا حتى سجناً كبيراً. غزة مدرسة ثورية لن تتوقف عن العطاء، ليس لأن سكانها صلبون أو فوق الطبيعة، بل لأنهم أهل الأرض بكل ما تعني تلك العبارة من معنى.

مشاركة المقال: