السبت, 17 مايو 2025 01:41 AM

لماذا تتجنب أمريكا وإسرائيل الخيار العسكري ضد إيران؟: قراءة في أسباب غياب "عقيدة بيغن"

لماذا تتجنب أمريكا وإسرائيل الخيار العسكري ضد إيران؟: قراءة في أسباب غياب "عقيدة بيغن"

علي حيدر

تكاد المفاوضات النووية مع إيران تمثل العنوان الأبرز لتحديد مسارات المنطقة، وسط تشابك لافت بين العوامل الدافعة وتلك المعرقلة، والتي تفتح الباب أمام فرص وتحديات متزامنة. غير أن العنصر الأكثر تأثيراً في هذا المشهد المعقد، يبقى في الإحجام المستمر من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل عن تنفيذ ضربة عسكرية مباشرة للمنشآت النووية الإيرانية، وهو خيار يختلف جوهرياً عن العمليات الأمنية السابقة التي فشلت في وقف تقدم برنامج طهران النووي؛ ومن شأن نجاحه، لو حدث، أن يحدث تحولاً جذرياً في قواعد الاشتباك الإيرانية والإقليمية والدولية.

وفي السياق، يبرز تساؤل جوهري حول الأسباب الفعلية الكامنة وراء ذلك التردد، الذي لا يتوافق مع العقيدة العسكرية المعلنة لكل من تل أبيب وواشنطن، ولا مع سوابق تاريخية لهما من مثل قصف المفاعل النووي العراقي عام 1981، ومفاعل دير الزور السوري عام 2007، وفق ما يعرف بـ«عقيدة بيغن». فما الذي يمنع إسرائيل من تطبيق «عقيدة بيغن» في الحالة الإيرانية؟ ولماذا لم تبادر بعد إلى عمل عسكري محدود قبل الانخراط في مسار تفاوضي جديد؟ وما دلالات الامتناع المذكور لناحية موازين القوى والسيناريوات المحتملة في المرحلة المقبلة؟

لا حاجة إلى التذكير هنا بالقدرات العسكرية الضخمة لإسرائيل والولايات المتحدة، والتي لا يخلو الترويج لها من المبالغة أحياناً. إلا أن فهم حقيقة الوضع يقتضي النظر في حدود هذه القوة، وفي عناصر الردع التي نجحت إيران في تكريسها خلال العقدين الماضيين، والتي حالت دون تنفيذ أي هجوم عسكري مباشر على منشآتها النووية، ما مكنها من تعزيز موقعها كـ«دولة حافة نووية».

ولعل أول ما يحضر هنا، هو الكلفة العالية لأي خيار عسكري آني مقارنةً بجدواه المحدودة، والتي تمثل مؤشراً مهماً إلى اختلال المعادلات. ففي مراحل سابقة، كانت الضربة أقل كلفة وأكثر تأثيراً في تعطيل البرنامج النووي الإيراني؛ ومع ذلك، لم يُقدِم الطرفان على تنفيذها، وهو ما أدى عملياً إلى ترسيخ مظلة ردع إستراتيجية لإيران، عززت أمنها القومي، ورسخت موقعها الإقليمي والدولي، في وقت لم تُفلح فيه الضغوط الاقتصادية أو العمليات الأمنية في منعها من المضي في هذا الطريق.

استطاعت إيران بناء «مظلة ردع» واسعة منعت الحرب المباشرة عليها

والواقع أن التحذيرات الأمنية الإسرائيلية من فشل أي ضربة عسكرية لطهران بسبب اعتبارات استخباراتية أو فنية أو عملياتية، لا تفتأ تتكاثر، منبهةً إلى احتمال أن تُترك لإيران، والحال هذه، قدرة نووية كامنة، بل وأن يُفتح الباب أمام سيناريوات كارثية على المديين المتوسط والبعيد. إذ إنه من منظور تقني، لا يمكن لضربة من هذا النوع أن تدمر البنية المعرفية والتكنولوجية التي راكمها الإيرانيون، والتي ستمكنهم من إعادة بناء برنامجهم سريعاً، وهو ما يفرغ الهجوم المحتمل من مضمونه الإستراتيجي، ويجعله أقرب إلى مقامرة غير محسوبة العواقب؛ وفي ذلك العائق الأكبر الذي بنته إيران أمام لجوء أعدائها إلى الخيار العسكري.

ويؤكد «معهد أبحاث الأمن القومي» الإسرائيلي، نقلاً عن تقارير استخبارية أميركية، أن «أي هجوم إسرائيلي لن يؤخر البرنامج الإيراني إلا لأشهر قليلة». كما إن تنفيذ الضربة يتطلب تنسيقاً أميركياً واسعاً، ليس فقط على صعيد الدفاع ضد الرد الإيراني، بل حتى في مراحل التنفيذ. ومثل هذه الحملة، تمثل مغامرة كبيرة للولايات المتحدة أيضاً، وتنطوي على خطر التصعيد المنفلت، وتحويل الموارد من أولويات إستراتيجية أخرى، وعلى رأسها الصين، نحو الشرق الأوسط، وتهدد بالتورط في حرب واسعة النطاق غير مضمونة النتائج.

أيضاً، تخشى تل أبيب وواشنطن من أن يدفع الهجوم العسكري على طهران، الأخيرة نحو اتخاذ «قرار إستراتيجي» بامتلاك سلاح نووي كامل، عبر الانسحاب من «معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية»، والعمل على إعادة بناء منشآتها النووية في مواقع أكثر سرية وتحصيناً، بعيداً من أعين «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، وهو ما يفقد المجتمع الدولي أي قدرة على الرقابة.

ومن هنا، إن أي ضربة، لكي تكون فعّالة، لا بد من أن تكون بداية حملة طويلة الأمد ضد طهران، ما يعني التورط في صراع مفتوح قد يتحول إلى «ثقب أسود» إستراتيجي يستنزف طاقات واشنطن ويدخل المنطقة في مرحلة من الفوضى والصراعات المتداخلة، ويجبر الولايات المتحدة على إعادة النظر في أولوياتها الدولية. بناء على ما تقدم، تبرز دعوات في بعض الأوساط إلى اعتماد خيار «الضربة المحدودة» كجزء من إستراتيجية التفاوض، لكن حتى هذا الخيار لا يخلو من مخاطر التصعيد، ومن المحتمل أن يدفع إيران إلى رد عسكري يبدل المعادلات، أو يحمل كلا الطرفين على خوض مواجهة أوسع، أو قبول وقائع ميدانية جديدة.

بالنتيجة، فإن غياب «عقيدة بيغن» في التعامل مع الملف النووي الإيراني، لا يفسر إلا بإدراك عميق لطبيعة هذا التحدي وتعقيداته. كما يعكس تحولاً في التفكير الإستراتيجي، مدفوعاً بتعقيدات الواقع الإقليمي وبالقدرات المتنامية لإيران، وهو ما يجعل من التفاوض خياراً أقل كلفة وخطورة – حتى وإن لم يكن مضمون النتائج -؛ ويمنح الجمهورية الإسلامية هامشاً من المناورة والتفاوض، من موقع الصمود والثبات على خياراتها الإستراتيجية.

ولعل من أهم ما يعكسه هذا المسار، هو بالضبط ما ظل رئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يحذر الولايات المتحدة منه، منذ أكثر من عقد، وعنوانه أن المشكلة تكمن في أن تهديدات تل أبيب وواشنطن، لا تؤثر في خيارات النظام الإسلامي في طهران، علماً أن الأخيرة قد استعدت لمواجهة تلك التهديدات إن نُفّذت، وأظهرت تصميماً على المواجهة. أما إذا فشل المسار التفاوضي في التوصل إلى اتفاق يعكس إقرار الطرفين بالمعادلات التي بنت مظلة ردع واسعة منعت الحرب المباشرة حتى الآن، فستجد واشنطن نفسها أمام السيناريو الذي دائماً ما تجنبته حتى اليوم، وأصبح التردد فيه واقعاً يمتد لأكثر من عشرين عاماً.

مشاركة المقال: