نزار نمر
من شبه المتعارف عليه أنّ ما يُسمّى مواقع تواصل اجتماعي، ليست في الحقيقة سوى مواقع تواصل سطحي. هي عبارة يردّدها – أو ما يماثلها – مرتادو هذه المواقع التوّاقون إلى زمن «أبسط»، مثلما يردّد «الكارهون». ومن الكارهين مَن يستخدمون هذه المواقع مكرهين، بينما بعضهم لا يفهم حتّى كيف تعمل، يفضّل آخرون عدم تعلّم كيفية استخدامها والإبقاء، بفخر، على «العقل المتحجّر» من «زمن بائد».
زمن السمك المتحجّر ينطبق ما سبق بشكل أكبر على ما أُطلقَ عليه مصطلح «الذكاء الاصطناعي»، وهناك ترتفع حدّة الكره و«التحجّر»، بالتوازي مع ارتفاع «هوس» الغارقين في وحول الأصفار والآحاد في المقابل. لكن لحسن الحظّ (أو لسوئه)، يمكن استخدام هذا الذكاء الآلي للعودة إلى «الزمن البائد»، أو الأبسط «الجميل». لا حدود هنا؛ العودة متاحة ليس فقط إلى زمن العقل المتحجّر، بل حتّى إلى زمن السمك المتحجّر.
قد يتساءل القارئ عن مغزى هذا المقال، فيما التأخّر في الدخول في صلب الموضوع يُعدّ ارتكاباً لا يُغتفر في عالم التواصل السطحي والذكاء الاجتماعي حيث مدى الانتباه القصير، أو الخاضع لـ«القصقصة». لكن في عالم الكتابة، للمقدّمة نكهة أخرى، بصرف النظر عن لبّ الموضوع. لكن دعنا من الإطالة: مزيج التواصل السطحي والذكاء الاصطناعي ولّد حقائق مزوّرة ووعياً اصطناعيّاً.
مسيحي… أو مسلم؟! على المنصّات التي تعتمد مقاطع الفيديو القصيرة، يجد بعض «منشئي المحتوى» ضالّتهم في نشر مشاهد من تركيب الخيال الاصطناعي، عن بلدان ومدن في حقب شتّى. وكيف لا يكون للبنان «الزمن الجميل» مقعده؟ كلّ شيء على ما يرام، فهي مقاطع جميلة على أنغام موسيقى تقليدية اصطناعية، تذكّر بمثيلاتها الحقيقية بصوت فيروز. لكن مع دخول قسم التعليقات، تكون العودة إلى «الزمن البشع».
اكتمل التواصل السطحي والوعي الاصطناعي بنسخته اللبنانية «عندما كان لبنان بلداً مسيحيّاً» يعلّق أحدهم، علماً أنّ قدميه إمّا لم تطآ لبنان يوماً، أو لم تطأه في ذلك الوقت. هكذا، يختصر الأمور بسطحية وشمولية، ويقرّر من تلقاء نفسه تاريخ بلد «على ذوقه». لكن مهلاً، لم ينقضِ الأمر بعد. هناك آخر، على شاكلته، لكنّه الوجه المقابل للعملة: «لبنان كان وسيبقى بلداً مسلماً». كيف؟ مَن قرّر ذلك؟ لا أحد يعلم، لكنّ الوعي الاصطناعي بات حقيقة. المضحك: تظهر لبنانية ترتدي الحجاب، فيقفز يميني أوروبي مشبّع بالتعصّب ليتحسّر: «انظروا ماذا فعل حزب الله بلبنان»، قبل أن تظهر أخرى في ملابس السباحة، فيقفز متعصّب عربي… ويرمي التعبير ذاته!
مهما بلغ التركيز على الشكليّات في مقابل التغاضي عن المضمون، فالواقع يبقى واحداً، وهو أنّ لبنان يجمع كلّ هذه التناقضات، وهذا ربّما سبب استعصاء فهم أصحاب العقول المتحجّرة. وقد بدأت العدوى تشتدّ عند اللبنانيّين أيضاً. فحبّهم للاستيراد أبى إلّا أن يثمر تحويلاً للحروب الـ«دونكيتيكتوكية» إلى تلفزيونهم الرسمي، ونقاش مظهر مراسلته بدلاً من المضمون. أجواء الانتخابات البلدية التي تزيّن البلاد تشي بتقديم الشكليّات على المضمون، بل هي «عرس» على السطح.
أورتاغوس وخاتم داوود من جهتها، تجوب نائبة المبعوث الرئاسي الأميركي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، أنحاء البلاد، مصدرةً أوامرها إلى المسؤولين الخانعين، فيما لا يجد الكثير من اللبنانيّين ما يستدعي التعليق سوى مظهرها. بعضهم يشير إلى مظهرها الأنيق ويذهب حتّى إلى تعليقات ذكورية، فيما آخرون «يجنّون» بسبب خاتمها الذي يحمل نجمة داوود، كأنّ سلفها الذي خدم في صفوف الاحتلال كان أفضل حالاً لمجرّد أنّه لم يضع خاتماً مماثلاً.
تأخذ أورتاغوس إلى مواقع التواصل السطحي، وتهين السياسيّين اللبنانيّين، فيأتيها الردّ من وليد جنبلاط الذي قالت له ما معناه إنّ المخدّرات التي يتناولها مضروبة. «الأميركية البشعة» يردّ جنبلاط، فيقفز «الناشطون» عتباً واعتراضاً على إهانة حرمة «الشكل» بهذه الطريقة. كيف له هو بالتحديد أن يتكلّم عن الشكل، وفوق ذلك الشكل الأميركي؟! لكن بما أنّ المضمون لا يهمّهم، فاتهم أنّ ذلك عنوان لرواية تحوّلت إلى فيلم عن ديبلوماسي أميركي تعاطى مع بلد آسيوي من دون أخذ خصوصيّته في الحسبان، فانفجرت الأمور بوجهه. وإذا أردنا التكلّم عن المضمون، صحيح أنّ جنبلاط رمز من رموز الاقتتال الداخلي كما كلّ عهود ما بعد الطائف، لكنّ لمضمون الوصاية أولوية، وعلى المحتفلين فهم ألّا شيء يدعو إلى الفرح في إهانة بلدهم، ولو عبر سياسيّين يكرهونهم، وفرض الوصاية عليه.
هكذا يكون اكتمل التواصل السطحي والوعي الاصطناعي بنسخته اللبنانية. والنسخة اللبنانية غالباً ما تنافس الأصلي، إن لم تجتزْه، كما نشهد أخيراً مع فورة المطاعم والمقاهي التي تضاهي «ماركات» عالمية عبر «تقليدها». هي ليست فكرة عاطلة بالضرورة. لكن قد لا تصلح عند تمييز «يلّي بيصلّي الأحد» عن «يلّي بيصلّي الجمعة»، فكيف عندما تميّز بين اللذين يصلّيان في اليوم ذاته، لكن أحدهما يروم رشّة ملح فيما الآخر يفضّل البهار!.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار