كتب محمد خير الوادي: في تموز المقبل، يحتفل مهاتير محمد، زعيم ماليزيا وباني نهضتها الحديثة، بذكرى ميلاده المائة. والشيء المدهش في هذا الرجل، أنه وهو في هذا العمر المتقدم، ألف كتابًا جديدًا بعنوان "التقاط الأمل.. الكفاح مستمر من أجل ماليزيا جديدة"، تحدث فيه عن تجربته أثناء الخروج من الحكم وحتى الوقت الحالي.
أتاح لي عملي الصحفي والدبلوماسي اللقاء مع مهاتير محمد عدة مرات في ماليزيا وخارجها. وكتبت عن بعض هذه اللقاءات في الكتاب الذي نشرته بعنوان: "لقاءات مع قادة من آسيا". وسأتحدث في هذه المقالة – على عجالة – حول أهم الآراء التي طرحها والتزم بها مهاتير، خلال رحلته السياسية الطويلة، والتي أثمرت عن نقل بلاده من التخلف والتوترات القومية، إلى وضع أصبحت في ظله واحدًا من نمور آسيا الكبار.
أولًا: موقف مهاتير من الإسلام
أخبرني مهاتير، أن زيارته لدمشق في خمسينات القرن الماضي، قد ساعدته في تكوين فهم صحيح للدين الإسلامي. قال لي مهاتير: "لقد وجدت – وكنت طالبًا آنذاك – في زيارتي لدمشق في خمسينات القرن العشرين، الأجوبة الشافية التي بحثت عنها. فقد دهشت عندما رأيت ضريحًا لأحد أنبياء المسيحيين في قلب الجامع الأموي، وشاهدت كيف تتجاور المساجد والكنائس، وقيل لي آنذاك، أن رئيس وزراء سورية البلد المسلم، كان مسيحيًا. أولًا، وثانيًا – والكلام لمهاتير – لمست حب الدمشقيين للعمل والنظافة، وحرصهم على الإنتاج والحد من الهدر والإسراف". وقد استنتج مهاتير من زيارته هذه حلولًا عملية للتوتر القومي الدموي الذي كان يجتاح ماليزيا، وكان الحل عبر تطبيق مبدأ التسامح والسلم الأهلي بين مختلف مكونات الشعب الماليزي القومية والدينية (70% من الملاوي المسلمين، 25% صينيون، 5% هنود بوذيون). كما سارع إلى تطبيق مبدأ إسلامي آخر هو، الحث على العمل وطلب العلم وعدم الإسراف. وقد شاهدت كيف دمج مهاتير هذه المبادئ الإسلامية بالعملية التنموية هناك. ففي كل المعامل والمؤسسات التي زرتها، كانت تعلق على الجدران، آيات قرآنية وأحاديث نبوية باللغتين الملاوية والعربية، تحث على جودة العمل والإخلاص فيه والحد من الهدر والإسراف، وتدعو إلى النظافة والمعاملة الحسنة وعدم الغش.
وقد جاء في الدستور الماليزي: أن الإسلام هو دين الدولة، وأن لبقية الأديان الحق في ممارسة الشعائر الخاصة بها. والشيء الذي انفرد به مهاتير، هو أنه لم يطبق شكلًا للحكم الإسلامي، ولم يسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية على المجتمع، بل اكتفى باستلهام قيم الإسلام السمحة وبثها ونشرها في الحياة والمجتمع الماليزي.
وقد أكد مهاتير أكثر من مرة، أن الدين الإسلامي لا يعني التخلف، وهو بعيد عن العنف والإرهاب، وأن مشكلة ماليزيا كانت في التفسيرات الخاطئة لبعض رجال الدين للإسلام، وفي التعديات الغربية على هذا الدين. ولذلك التقى مهاتير مرارًا برجال الدين المسلمين في ماليزيا، وتمكن من إقناعهم بصياغة نهج جديد في الوعظ الديني، ينطلق من قيم الإسلام النبيلة والعظيمة. واعتبر مهاتير – كما كتب: أن "الوضع البائس الذي يعيشه المسلمون اليوم، راجع جزئيًا إلى عدم قيامهم بشيء، أو قيامهم بشيء ضئيل للغاية، وشدد على أن الأمة مطلوب منها أن تبذل كل جهدها في مساعدة نفسها، ثم بعد ذلك تلجأ بالدعاء إلى الله تعالى بالنصر والتمكين والعون".
ثانيًا: الخبرة التنموية الماليزية في ظل مهاتير
كان مهاتير مقتنعًا، أن التنمية تستند إلى أعمدة رئيسية هي: العدالة في توزيع الثروات، والتركيز على التعليم، ومكافحة الفساد، واستثمار الخبرات والكوادر الوطنية والاستقرار.
وركز مهاتير على التعليم، حيث خصص له ربع ميزانية ماليزيا السنوية، وفتح عشرات الجامعات ومراكز البحوث، وقدم المساعدات والمنح للطلاب الفقراء، وشجعهم على الدراسة والبحث العلمي، وأرسل عشرات الآلاف منهم إلى اليابان خاصة وبعض الدول الغربية. كما اهتم مهاتير بتحويل ماليزيا من بلد يعتمد على الزراعة، إلى بلد صناعي متقدم، وفي هذا المجال، أنشأ أربعة مصانع ضخمة للفولاذ والإسمنت والتعليب وصفائح القصدير، ومصنعًا للسيارات نجح في إنتاج أول سيارة ماليزية خالصة باسم بروتون، وآخر للطائرات. وقد استوعبت هذه المصانع وتفرعاتها 40% من العمالة المحلية.
كما أشرف مهاتير على بناء أكثر من 15 ألف مشروع صناعي، برأس مال إجمالي وصل إلى 220 مليار دولار، وفّر مليوني فرصة عمل للشعب الماليزي. ورسخ مهاتير مبدأ الانضباط الوظيفي، وكان قدوة في ذلك. فعندما استقبلني في مكتبه، كان الوقت الساعة السادسة صباحًا. وأخبرني، أنه يوم عمله يبدأ الساعة الخامسة والنصف صباحًا بالاتصال مع كل الوزراء، في مكاتبهم، ووحد لباس كبار المسؤولين، وكان يكتب على صدر كل مسؤول اسمه. كما استعان مهاتير بخدمات المسؤولين السابقين، ولم يسرح أحدًا من الكوادر القديمة، وهو أمر عزز الاستقرار والثقة في جهاز الدولة.
ثالثًا: التوجه الخارجي لمهاتير
كان موقف مهاتير حيال الغرب ينطوي على كثير من الشك والريبة وحتى العداء الضمني. وقد أخبرني، كيف تآمر الغرب على نمو ماليزيا عام 1997، وحاول تدمير اقتصادها، وكيف أن أمريكا قد حجبت الكلمة السرية عن طائرات الاف 16 التي اشترتها ماليزيا من أمريكا. وأضاف مهاتير: تصور أننا لم نكن قادرين على استعمال تلك الطائرات في العمليات الحربية، وكنا مضطرين للحصول على الكلمة السرية من أمريكا عند كل طلعة طيران. ولذلك أعلن مهاتير توجهه نحو الشرق، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية، وفيما بعد نحو الصين. وتمكن من الحصول على الاستثمارات والتقانة المتطورة من تلك البلدان للنهوض بالبلاد.
هناك الكثير من التفصيلات الممتعة والمفيدة، المتعلقة بحياة مهاتير الطويلة، والحافلة بأحداث وإنجازات وانتكاسات كثيرة. ورغم ذلك كله، يبقى مهاتير محمد الذي يشارف الآن على المائة عام من عمره، واحدًا من أكبر عمالقة السياسة الدولية، وأبرز قادة العالم، الذين تركوا بصمات كبيرة في تطوير بلدانهم وشعوبهم.
(اخبار سوريا الوطن ١-مركز الوادي للدراسات الأسيوية)